تا ريخ اولادعقيل بن ابي طالب

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

عقيدة وتاريخ وسياسة وانساب


    العقيدة الاسلامية

    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 6:53 am

    المقدمة

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
    وبعد:
    إن من الأهداف التي نسعى لتحقيقها في موقع الدرر السنية إيجاد موسوعات علمية في شتى العلوم، العقدية والحديثية والفقهية والتاريخية وغيرها، لتكون مرجعاً علمياً موثقاً على منهج أهل السنة والجماعة، وقد سعينا في ذلك منذ انطلاق الموقع عام 1422هـ فأنجزنا بفضل الله ومنِّه عدداً من الموسوعات، والتي نسعى دائما في تطويرها، ومن ذلك الإصدار الأول من الموسوعة العقدية، وها نحن اليوم وبفضل الله أنجزنا الإصدار الثاني منها، وقد حرصنا أن يكون شاملاً لجميع مسائل وموضوعات العقيدة، معتمدين في ذلك على أكثر من سبعين مرجعاً من كتب العقيدة والتوحيد على منهج أهل السنة والجماعة، وقد قام بهذا العمل الضخم ثلة من الباحثين المتخصصين في القسم العلمي بدعم من القسم الإداري والتقني بالموقع، وذلك ببذل جهودٍ مضنية من جمعٍ وتنسيقٍ وتحقيقٍ وتصحيحٍ لهذه الموسوعة حتى ظهرت بالصورة الحالية، فجزاهم الله خيراً.
    وأسأل الله عز وجل أن نكون قد وفقنا في نشر دينه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، من خلال نشر هذه العقيدة السلفية الصافية، وأن يعيننا على تطوير بقية الموسوعات بما يرضي ربنا ويحقق آمالنا وطموحاتنا.
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم



    المطلب الأول: معنى العقيدة لغة

    العقيدة في اللغة: من العقد؛ وهو الربط، والإبرام، والإحكام، والتوثق، والشد بقوة، والتماسك، والمراصة، والإثبات؛ ومنه اليقين والجزم. والعقد نقيض الحل، ويقال: عقده يعقده عقداً، ومنه عقدة اليمين والنكاح، قال الله تبارك وتعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89].
    والعقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده، والعقيدة في الدين ما يقصد به الاعتقاد دون العمل؛ كعقيدة وجود الله وبعث الرسل. والجمع: عقائد وخلاصة ما عقد الإنسان عليه قلبه جازماً به؛ فهو عقيدة، سواء كان حقاً، أم باطلاً

    الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص29





    المطلب الثاني: معنى العقيدة اصطلاحا

    و(العقيدة) في الاصطلاح: هي الأمور التي يجب أن يصدق بها القلب، وتطمئن إليها النفس؛ حتى تكون يقيناً ثابتاً لا يمازجها ريب، ولا يخالطها شك. أي: الإيمان الجازم الذي لا يتطرق إليه شك لدى معتقده، ويجب أن يكون مطابقاً للواقع، لا يقبل شكاً ولا ظنا؛ فإن لم يصل العلم إلى درجة اليقين الجازم لا يسمى عقيدة. وسمي عقيدة؛ لأن الإنسان يعقد عليه قلبه

    الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص30


    هي الإيمان الجازم بالله، وما يجب له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبكل ما جاءت به النصوص الصحيحة من أصول الدين وأمور الغيب وأخباره، وما أجمع عليه السلف الصالح. والتسليم لله تعالى في الحكم والأمر والقدر والشرع، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالطاعة والتحكيم والاتباع

    مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص9






    المطلب الثالث: تعريف العقيدة الإسلامية

    العقيدة الإسلامية: هي الإيمان الجازم بربوبية الله تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وسائر ما ثبت من أمور الغيب، وأصول الدين، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم التام لله تعالى في الأمر، والحكم، والطاعة، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
    والعقيدة الإسلامية: إذا أطلقت فهي عقيدة أهل السنة والجماعة؛ لأنها هي الإسلام الذي ارتضاه الله ديناً لعباده، وهي عقيدة القرون الثلاثة المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان

    الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص30



    العقيدة

    من ذلك: كتاب (عقيدة السلف أصحاب الحديث) للصابوني (ت: 449هـ). و(شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للالكائي (ت: 418هـ). و(الاعتقاد) للبيهقي (ت: 458هـ ).
    فيقال: عقيدة السلف وعقيدة أهل الأثر ونحوه.



    التوحيد

    من ذلك: كتاب (التوحيد في الجامع الصحيح) للبخاري، (ت: 256هـ) وكتاب (التوحيد وإثبات صفات الرب) لابن خزيمة (ت: 311هـ). وكتاب (اعتقاد التوحيد) لأبي عبدالله محمد بن خفيف(ت: 371هـ). وكتاب (التوحيد) لابن منده (ت: 359هـ). وكتاب (التوحيد) للإمام محمد بن عبدالوهاب (ت: 1115هـ).
    لأنه يدور على توحيد الله بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات، فالتوحيد هو أشرف مباحث علم العقيدة وهو غايتها، فسمي به هذا العلم عند السلف تغليباً.





    السنة

    من ذلك: كتاب (السنة) للإمام أحمد (ت:241هـ). وكتاب السنة، لعبدالله بن أحمد بن حنبل، (ت: 290هـ). و(السنة) للخلال (ت: 311هـ). و(السنة) للعسال (ت: 349هـ). و(السنة) للأثرم (ت: 273هـ). و(السنة) لأبي داود (ت: 275هـ).
    والسنة الطريقة، فأطلق على عقيدة السلف السُّنة لاتباعهم طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في ذلك. وهذا الإطلاق هو السائد في القرون الثلاثة الفاضلة.





    أصول الدين

    من ذلك: كتاب (أصول الدين) للبغدادي (ت: 429هـ). و(الشرح والإبانة عن أصول الديانة) لابن بطة (ت: 378هـ). و(الإبانة عن أصول الديانة) للأشعري (ت: 324هـ).
    والأصول هي أركان الإيمان وأركان الإسلام، والمسائل القطعية وما أجمع عليه الأئمة.






    الفقه الأكبر

    من ذلك: كتاب (الفقه الأكبر) المنسوب لأبي حنيفة (ت: 150هـ) وهو يرادف أصول الدين، مقابل الفقه الأصغر وهو الأحكام الاجتهادية.





    الشريعة

    من ذلك: كتاب (الشريعة) للآجري (ت: 360هـ). و(الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية) لابن بطة (ت: 378هـ) أي ما شرعه الله ورسوله من سنن الهدى وأعظمها أصول الدين



    الإيمان

    ويشمل سائر الأمور الاعتقادية
    هذه هي أشهر إطلاقات أهل السنة على علم العقيدة، وقد يشركهم غيرهم في إطلاقها بالتبع، كبعض الأشاعرة وأهل الحديث منهم بخاصة.
    وهناك اصطلاحات أخرى تطلقها الفرق -غير أهل السنة- على هذا العلم، من أشهر ذلك:






    علم الكلام

    من ذلك: (شرح المقاصد في علم الكلام) للتفتازاني (ت:791هـ) وهذا الإطلاق يعرف عند سائر الفرق المتكلمة، كالمعتزلة والأشاعرة، ومن يسلك سبيلهم، وهو لا يجوز لأن علم الكلام حادث مبتدع، ويقوم على التقول على الله بغير علم، ويخالف منهج السلف في تقرير العقائد.





    الفلسفة

    عند الفلاسفة ومن سلك سبيلهم، وهو إطلاق لا يجوز في العقيدة لأن الفلسفة مبناها على الأوهام والعقليات الخيالية، والتصورات الخرافية عن أمور الغيب المحجوبة.






    التصوف

    عند بعض المتصوفة والفلاسفة، والمستشرقين ومن نحا نحوهم، وهو إطلاق مبتدع لأنه ينبني على اعتبار شطحات المتصوفة ومزاعمهم وخرافاتهم في العقيدة.


    الإلهيات

    عند أهل الكلام والفلاسفة والمستشرقين وأتباعهم وغيرهم، وهو خطأ، لأن المقصود بها عندهم فلسفات الفلاسفة، وكلام المتكلمين والملاحدة فيما يتعلق بالله - تعالى -.





    ما وراء الطبيعة

    أو (الميتافيزيقيا) كما يسميها الفلاسفة والكتاب الغربيون ومن نحا نحوهم، وهي قريبة من معنى الإلهيات. ويطلق الناس على ما يؤمنون به ويعتنقونه من مبادئ وأفكار (عقائد) وإن كانت باطلة أو لا تستند إلى دليل عقلي ولا نقلي، فإن للعقيدة مفهوماً صحيحاً هو الحق، وهو عقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الكتاب والسنة الثابتة، وإجماع السلف الصالح

    مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص10






    المبحث الثالث: موضوعات علم العقيدة

    الإيمان، والإسلام، والغيبيات، والنبوات، والقدر، والأخبار، وأصول الأحكام القطعية، وسائر أصول الدين والاعتقاد، ويتبعه الرد على أهل الأهواء والبدع وسائر الملل والنحل الضالة، والموقف منهم

    مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص10


    وموضوع علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة يدور على أمور منها: بيان حقيقة الإيمان بالله تعالى وتوحيده، وما يجب له تعالى من صفات الجلال والكمال، مع إفراده وحده بالعبادة دون شريك، والإيمان بالملائكة الأبرار والرسل الأطهار، وما يتعلق باليوم الآخر والقضاء والقدر، كما يدور على ضد التوحيد وهو الشرك وهو الكفر وبيان حقيقتهما وأنواعهما، وقد يقال إن موضوع علم التوحيد يدور على محاور ثلاثة، وذلك على النحو التالي:
    1- ذات الله تعالى أو الإلهيات، والبحث في ذات الله تعالى من حيثيات ثلاث، ما يتصف به تعالى... وما يتنزه عنه... وحقه على عباده....
    2- ذوات الرسل الكرام أو النبوات والبحث فيها من الحيثيات التالية: ما يلزم ويجب عليهم... ما يجوز في حقهم... ما يستحيل في حقهم... ما يجب على أتباعهم.
    3- السمعيات أو الغيبيات: وهو ما يتوقف الإيمان به على مجرد ورود السمع أو الوحي به، وليس للعقل في إثباتها أو نفيها مدخل كأشراط الساعة وتفاصيل البعث... والبحث في السمعيات أو مسائل الغيب يكون من حيث اعتقادها وهو يقوم على دعامتين: الإقرار بها مع التصديق ويقابله الجحود والإنكار لها، الإمرار لها مع إثبات معناها ويقابله الخوض في الكنه والحقيقة، ومحاولة التصور والتوهم بالعقل بعيدا عن النقل.
    وضابط السمعيات: أن العقل لا يمنعها ولا يحيلها، ولا يقدر على ذلك، ولا يقدر أن يوجبها ولا يحار في ذلك، فمتى ما صح النقل عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن الواجب اعتقاد ذلك والإقرار به، ودفع كل تعارض موهوم بين شرع الله وهو الوحي وبين خلقه وهو العقل،... والقاعدة الذهبية هو أنه لا يتعارض وحي صحيح مع عقل صريح عند التحقيق

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص108
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty رد: العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 7:03 am



    تمهيد

    العقيدة لها مصدران أساسيان، هما: كتاب الله تعالى (القرآن الكريم). وما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وإجماع السلف الصالح: مصدرٌ مبناه على الكتاب والسنة.
    أما الفطرة والعقل السليم فهما مؤيدان يوافقان الكتاب والسنة، ويدركان أصول الاعتقاد على الإجمال لا على التفصيل، فالعقل والفطرة يدركان وجود الله وعظمته، وضرورة طاعته وعبادته، واتصافه بصفات العظمة والجلال على وجه العموم. كما أن العقل والفطرة السليمين يدركان ضرورة النبوات وإرسال الرسل، وضرورة البعث والجزاء على الأعمال، كذلك، على الإجمال لا على التفصيل.
    أما هذه الأمور وسائر أمور الغيب، فلا سبيل إلى إدراك شيء منها على التفصيل إلا عن طريق الكتاب والسنة (الوحي)، وإلا لما كانت غيباً وتعارض النص الصريح من الكتاب والسنة مع العقل الصحيح (السليم) غير متصور أصلاً، بل هو مستحيل، فإذا جاء ما يوهم ذلك فإن الوحي مقدم ومحكم. لأنه صادر عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - والعقل لا عصمة له، بل هو نظر البشر الناقص. وهو معرض للوهم والخطأ والنسيان والهوى والجهل والعجز، فهو قطعاً ناقص

    مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص28


    إن علم التوحيد يستمد من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وذلك بمعرفة مناهج الاستنباط، وطرائق الاستدلال، واستخراج الأحكام عند أهل السنة، وهذا يلزم له إلمام بالعربية التي هي لسان الوحي، قرآنا وسنة، وبها نطق أهل العلم في الأمة من السلف الصالح، كما يلزم له إدامة نظر في كتب الشروح والتفسير المأثور للقرآن والحديث، مع بلوغ غاية من علم الأصول، إذ هو سبيل الوصول إلى معرفة الأحكام الشرعية، العقدية والعملية، التي هي مناط السعادة الدنيوية والأخروية.
    أنواع أدلة علم التوحيد:
    وأما أنواع أدلة علم التوحيد المرضية، فهذا ما سنفصل فيه القول لعظيم أهميتها؛ وذلك لأن علم التوحيد أوثق العلوم الشرعية دليلاً، وأصرحها برهانا، وأظهرها بياناً، تقوم دعائم دلائله على صحائح المنقول، والإجماع الصحيح المتلقى بالقبول، ثم صرائح وبراهين المعقول، والفطرة المستقيمة السالمة من الانحراف، وهذه إشارة إلى أنواع هذه الأدلة التي يؤيد بعضها بعضا

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص133







    المصدر الأول: النقل الصحيح

    إن صحائح المنقول تشمل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، والعقيدة في الله تعالى من أهم ما بين الله في كتابه، قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وأهم ذلك العقيدة في الله وفي أنبيائه ورسالاته والغيب وما يحويه.وعن السنة قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) .
    وبيان مسائل الاعتقاد من أول وأولى ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في نصوص السنة، وهو صلى الله عليه وسلم أنصح الأمة وأفصحها، وأحرصها على أمانة البلاغ والرسالة، لهذا كانت نصوص السنة مع الكتاب هي معول السلف ومعتمدهم في الاستدلال على مسائل الاعتقاد.قال شيخ الإسلام عن أهل السنة: هم أهل الكتاب والسنة؛ لأنهم يؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، ويتبعون آثاره صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً .يقول الإمام البربهاري: واعلم أنه من قال في دين الله برأيه وقياسه وتأوله من غير حجة من السنة والجماعة، فقد قال على الله ما لا يعلم، ومن قال على الله ما لا يعلم فهو من المتكلفين. والحق ما جاء من عند الله عز وجل، والسنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجماعة ما اجتمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان. ومن اقتصر على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلج على أهل البدعة كلهم، واستراح بدنه، وسلم له دينه إن شاء الله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ستفترق أمتي))، وبيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية منها فقال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) ، فهذا هو الشفاء والبيان، والأمر الواضح، والمنار المستقيم .وأهل السنة لا يستدلون بالقرآن دون السنة؛ بل بالسنة والقرآن، ولا يكمل دين العبد إلا بالإيمان بما فيهما؛ لأنهما مما أوتيه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) .
    فهما في الاحتجاج والاستدلال سواء، لا يعزل أحدهما من أجل التحاكم إلى الآخر، قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وقال تعالى:{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].يقول البربهاري: وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن، فلا شك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم عنه ودعه .
    ولا يعارض صحيح النقل - من أدلة علم العقيدة - بوهم الرأي وخطل القياس.قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فكان من الأصول المتفق عليها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده.. فكان القرآن هو الإمام الذي يقتدى به، ولهذا لا يوجد في كلام أحد من السلف أنه عارض القرآن بعقل ورأي وقياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط: قد تعارض في هذا العقل والنقل، فضلاً عن أن يقول: فيجب تقديم العقل، والنقل إما أن يفوض وإما أن يؤول!.. ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية تفسرها أو تنسخها، أو بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسرها، فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه .
    وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يحتج بها مطلقا - بشرط الصحة -، لا فرق في ذلك بين العقائد والأحكام من حيث حجيتها ومجالها، ولا بين المتواتر والآحاد من حيث ثبوتها وقبولها

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص134




    المصدر الثاني: الإجماع
    والإجماع مصدر من مصادر الأدلة الاعتقادية؛ لأنه يستند في حقيقته إلى الوحي المعصوم من كتاب وسنة، وأكثر مسائل الاعتقاد محل إجماع بين الصحابة والسلف الصالح، ولا تجتمع الأمة في أمور العقيدة ولا غيرها على ضلالة وباطل. فالإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمدون عليه في العلم والدين، والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الخلاف وانتشرت الأمة ، وعلى هذا فإجماع السلف الصالح في أمور الاعتقاد حجة شرعية ملزمة لمن جاء بعدهم، وهو إجماع معصوم، ولا تجوز مخالفته، "فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة نبيه وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة أصول معصومة

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص136




    المصدر الثالث: العقل الصريح
    العقل مصدر من مصادر المعرفة الدينية، إلا أنه ليس مصدراً مستقلاً؛ بل يحتاج إلى تنبيه الشرع، وإرشاده إلى الأدلة؛ لأن الاعتماد على محض العقل، سبيل للتفرق والتنازع ، فالعقل لن يهتدي إلا بالوحي، والوحي لا يلغي العقل.
    وقد رفع الوحي من قيمة العقل وحث على التعقل، وأثنى على العقلاء، قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألْبَابِ} [الزمر: 17-18].
    والنصوص الشرعية قد جاءت متضمنة الأدلة العقلية صافية من كل كدر، فما على العقل إلا فهمها وإدراكها، فمن ذلك: قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22].
    وقال سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]. وقال جل وعلا:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [سورة النساء: 82]. وخوض العقل في أمور الإلهيات باستقلال عن الوحي مظنة الهلاك وسبيل الضلال. يقول ابن رشد الفيلسوف -وهو ممن خاض بالعقل في مسائل الاعتقاد وطالت تجربته-: لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله تعالى بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء . والمقارنة بين طريقة الوحي وطرق الفلاسفة والمتكلمين في بحث أمور العقيدة هي مقارنة بين الصواب والخطأ، والصحيح والفاسد، والنافع والضار.يقول الرازي - بعد طول بحث -: ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن. وقال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي .فميزان صحة المعقولات هي الموافقة للكتاب والسنة. قال في (الحجة): وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه، وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم عليه، وإن وجدوه مخالفاً لهم تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم . والعقل قد يهتدي بنفسه إلى مسائل الاعتقاد الكبار على سبيل الإجمال، كإثبات وجود الله مع ثبوت ذلك في الفطرة أولاً.قال شيخ الإسلام ابن تيمية: واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار مما يعلم بالعقل . أما مسائل العقيدة التفصيلية مما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته ورسوله وأنبيائه، وما يجب لهم وما يستحيل، فما كانت العقول لتدركها لولا مجيء الوحي.قال أبو القاسم إسماعيل الأصبهاني: ولأن العقل لا مجال له في إدراك الدين بكماله، وبالعلم يدرك بكماله ويقصد بالعلم الوحي.قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر، عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجه اليقين .
    وقال اللالكائي رحمه الله: سياق ما يدل من كتاب الله عز وجل، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل، قال الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلفظ خاص والمراد به العام: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن بالسمع والوحي عرف الأنبياء قبله التوحيد...وكذلك وجوب معرفة الرسل بالسمع، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].. فدلّ على أن معرفة الله والرسل بالسمع كما أخبر الله عز وجل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة .
    ثم إن كثيراً من مسائل الاعتقاد بعد معرفتها والعلم بها لا تدرك العقول حقيقتها وكيفيتها، وذلك كصفات الله تعالى وأفعاله، وحقائق ما ورد من أمور اليوم الآخر من الغيبيات التي لا يحيلها أو يردها العقل، ولا يوجبها أو يطلبها."ولهذا ضرب الله تعالى الأمثال في القرآن الكريم لتقرير مسائل الغيب، تنبيهاً للعقول على إمكان وجودها، فاستدل على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، وعلى خلق الإنسان بخلق السماوات والأرض وهي أعظم وأبلغ في القدرة، وعلى البعث بعد الموت بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الماء عليها" .قال السفاريني رحمه الله: لو كانت العقول مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه، لكانت الحجة قائمة على الناس قبل بعث الرسل وإنزال الكتب، واللازم باطل بالنص: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، فكذا الملزوم .
    وأخيراً: فإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح؛ فالأول خلق الله تعالى والثاني أمره، ولا يتخالفان؛ لأن مصدرهما واحد وهو الحق سبحانه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54].قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وليس في الكتاب والسنة وإجماع الأمة شيء يخالف العقل الصريح؛ لأن ما خالف العقل الصريح باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلاً، فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة .ولذا قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله: من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم ، "وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد؛ بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن للعالم أن يصير نبيا رسولاً .

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص137




    المصدر الرابع:الفطرة السوية

    أما الفطرة فهي خلق الخليقة على قبول الإسلام والتهيؤ للتوحيد، أو هي الإسلام والدين القيم.
    قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].قال ابن كثير رحمه الله: فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره .قال شيخ الإسلام: فالحنفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها، والحب لله، والخضوع له، والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية .
    وقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} معناه: أن الله ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة.وفي الحديث الصحيح: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء؟)) .فمعنى خلق المولود على الفطرة هو: أن الطفل خلق سليماً من الكفر على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه ، والفطرة قبول الإسلام، فهي كالأرض الخصبة القابلة، والوحي كالغيث النازل من السماء، ما إن ينزل عليها حتى تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.
    والفطرة السوية تقبل الإسلام وتهتدي إلى وجود الخالق بما أودع الله الخلائق من قوانين كلية، تظهر آثارها في الطفل الناشئ الذي لم يتعلم أو يتكلم، فهو يدرك أن الحادث لابد له من محدث، وأن الجزء دون الكل، وأنه يستحيل الجمع بين المتناقضين، وهذا من أوائل العقل وبواكيره، وقلوب بني آدم مفطورة على قبول الإسلام وإدراك الحق، ولولا هذا الاستعداد ما أفاد النظر ولا البرهان، شأنها في ذلك شأن الأبدان، فطرها الله تعالى قابلة للانتفاع والاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا هذا الاستعداد لما حصل انتفاع.والفطرة السوية تهدي العبد إلى أصول التوحيد والإيمان، وجمهرة أهل العلم من أهل السنة وغيرهم على فطرية الإيمان، وليس يحتاج العبد لتحصيله من أصله إلى استدلال أو برهان، فضلاً عن أن يشك ويخرج من ثوب اليقين والإذعان، "والقلوب مفطورة على الإقرار به سبحانه أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل:{أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم: 10] .يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة .ويقول: إن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، وإنه أشد رسوخاً في النفوس من مبدأ العلم الرياضي، كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي كقولنا: إن الجسم لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر، وأما العلم الإلهي فما يتصور أن تعرض عنه فطرة .
    والفطرة تدل على اتصاف الخالق بالصفات العلى والكمال المطلق، فهي تدرك أن من يخلق لا يكون كمن لا يخلق، قال تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17].
    فالخالق لهذا الكون لا يستوي مع غيره، في صفاته وأفعاله وذاته، فهي تدرك علو الصفات، كما تدرك علو الذات، فإنه ما قال عارف مؤمن قط: يا الله، إلا وجد في نفسه ضرورة بطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، لا يجادل في ذلك مجادل.
    والفطرة وإن غشيتها غاشية الإلحاد؛ تهتدي إلى تفرده تعالى بالألوهية يظهر ذلك في أوقات الشدة والمحنة، فإن القلب يفزع إلى خالقه، ويلجأ إلى بارئه عند حلول الحوادث العظام والخطوب الجسام، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]."والإسلام بعقائده وأحكامه موافق للفطرة لا يعارضها؛ بل كلما كانت العقائد والأحكام بعيدة عن الإسلام، كانت معارضة للفطرة الصحيحة مضادة لها، ففي الفطرة محبة العدل وإيثاره، وبغض الظلم والنفار منه، واستقباح إرادة الشر لذاته، لكن تفاصيل ذلك إنما تعلم من جهة الرسل، فالطفل عند أول تميزه إذا ضرب من خلفه التفت لعلمه أن تلك الضربة لابد لها من ضارب، فإذا شعر به بكى، حتى يقتص له منه، فيسكن ويهدأ، فهذا إقرار في الفطرة بالخالق، وهو التوحيد، وبالعدل الذي هو شرعة الرب تعالى" .
    والعقل والفطرة وإن كانا من دلائل التوحيد، إلا أنه لا تقوم الحجة على بني آدم إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وقطع العذر، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، فلا عذاب إلا بعد إرسال الرسل، وقطع العذر، وإقامة الحجة، وقالت المعتزلة في الآية: {رَسُولاً} أي: العقل، وهو تحريف للكلم عن مواضعه، بدلالة قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7].
    وهو سبحانه ما أهلك من قبلنا من الأمم إلا بعد إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم، قال تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208]، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
    فإن قيل: إذا كان وجود الله وتعظيمه مركوزا في الفطر، والعقول تستدل على ذلك، فعلام توقف التكليف على مجيء الرسول، وإنزال الكتاب؟
    فيقال: إن إثبات كون الفطرة هي الإسلام، لا يقتضي خلق علم ضروري في نفس الإنسان، يجعله عالما بالعقيدة وأصولها، ونواقضها، قال تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]. كما أن الله تعالى تكرما منه لا يعاقب قبل بلوغ الحجة الرسالية {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131]؛ بل تمتنع المؤاخذة حتى يبعث إليهم الرسول، ومن حكمة ذلك أن معرفة الله وإثبات وجوده المركوز في الفطر والعقول إجمالي لا تفصيلي، فالعقل لا يهتدي لكل كمالات الله تعالى، ولا يهتدي إلى كل ما يرضيه من الأقوال والأفعال، فلابد له من وحي يهديه ويرشده ويبين له معاقد الحل والحرمة في أفعال المكلفين، كما أن العقل والفطرة لا يدلان على عقوبة الآخرة لمن قصر في ذلك، فجاء الرسول ببيان ثواب التوحيد، وعقوبة الشرك في الدنيا والآخرة.
    قال ابن القيم رحمه الله:

    وكان الناس في لبس عظيم
    فجاءوا بالبيان فأظهروه

    وكان الناس في جهل عظيم
    فجاءوا باليقين فأذهبوه

    وكان الناس في كفر عظيم

    فجاءوا بالرشاد فأبطلوه


    وأخيراً فإنه لا تعارض ولا تناقض - بحمد الله - بين فطر الخلائق على الإسلام وبين عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأن الله تعالى " وإن خلقه مولوداً سليماً، فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره، وعلم ذلك" .

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص141
    [b]
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty رد: العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 7:09 am

    تمهيد

    إن المتأمل المنصف، لو قارن بين المعتقدات السائدة بين الناس اليوم ; لوجد للعقيدة الإسلامية - المتمثلة في عقيدة أهل السنة والجماعة - خصائص وسمات تميزها وأهلها بوضوح عن المعتقدات الأخرى من ديانات أو فرق أو مذاهب أو غيرها.
    ومن هذه الخصائص والسمات:



    سلامة الصدر

    وذلك باعتمادها على الكتاب والسنة وإجماع السلف، وأقوالهم فحسب.
    وهذه الخاصية لا توجد في مذاهب أهل الكلام والمبتدعة والصوفية، الذين يعتمدون على العقل والنظر، أو على الكشف والحدس والإلهام والوجد، وغير ذلك من المصادر البشرية الناقصة التي يُحكمونها أو يعتمدونها في أمور الغيب، ( والعقيدة كلها غيب ).
    أما أهل السنة فهم - بحمد الله - معتصمون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف الصالح وأقوالهم، وأي معتقد يستمد من غير هذه المصادر إنما هو ضلال وبدعة.
    فالذين يزعمون أنهم يستمدون شيئاً من الدين عن طريق العقل والنظر، أو علم الكلام والفلسفة، أو الإلهام والكشف والوجد، أو الرؤى والأحلام، أو عن طريق أشخاص يزعمون لهم العصمة (غير الأنبياء) أو الإحاطة بعلم الغيب (من أئمة أو رؤساء أو أولياء أو أقطاب أو أغواث أو نحوهم)، أو يزعمون أنه يسعهم العمل بأنظمة البشر وقوانينهم، من زعم ذلك فقد افترى على الله أعظم الفرية، ونقول لمن زعم ذلك كما قال الله تعالى لمن قال عليه بغير علم: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. وأنى له أن يأتي إلا بشبه الشيطان.
    وهذه الميزة والخصيصة - أعني الاعتماد على الكتاب والسنة، ومنهج السلف الصالح - سمة من سمات أهل السنة، لا تكاد تتخلف في كل مكان وزمان والحمد لله.



    أنها تقوم على التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم لأنها غيب

    والغيب يقوم ويعتمد على التسليم والتصديق المطلق لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فالتسليم بالغيب من صفات المؤمنين التي مدحهم الله بها، قال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1-3]. والغيب لا ُتدركه العقول ولا تحيط به، ومن هنا، فأهل السنة يقفون في أمر العقيدة على ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بخلاف أهل البدع والكلام، فهم يخوضون في ذلك رجماً بالغيب، وأنى لهم أن يحيطوا بعلم الغيب، فلا هم أراحوا عقولهم بالتسليم، ولا عقائدهم وذممهم بالاتباع، ولا تركوا عامة أتباعهم على الفطرة التي فطرهم الله عليها.





    موافقتها للفطرة القويمة والعقل السليم

    لأن عقيدة أهل السنة والجماعة تقوم على الاتباع والاقتداء والاهتداء بهدي الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه سلف الأمة، فهي تستقي من مشرب الفطرة والعقل السليم، والهدي القويم، وما أعذبه من مشرب. أما المعتقدات الأخرى فما هي إلا أوهام وتخرصات تعمي الفطرة، وتحير العقول.





    اتصال سندها بالرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة الهدى قولاً وعملاً وعلماً واعتقاداً

    فلا يوجد - بحمد الله - أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة ليس له أصل وسند وقدوة من الصحابة والتابعين، وأئمة الدين إلى اليوم، بخلاف عقائد المبتدعة التي خالفوا فيها السلف، فهي محدثة، ولا سند لها من كتاب أو سنة، أو عن الصحابة والتابعين، وما لم يكن كذلك فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة





    الوضوح والبيان

    تمتاز عقيدة أهل السنة والجماعة بالوضوح والبيان، وخلوها من التعارض والتناقض والغموض، والفلسفة والتعقيد في ألفاظها ومعانيها، لأنها مستمدة من كلام الله المبين
    الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى. بينما المعتقدات الأخرى هي من تخليط البشر أو تأويلهم وتحريفهم، وشتان بين المشربين، لاسيما وأن العقيدة توقيفية غيبية لا مجال للاجتهاد فيها كما هو معلوم.





    سلامتها من الاضطراب والتناقض واللبس

    فإن العقيدة الإسلامية الصافية الاضطراب فيها ولا التباس، وذلك لاعتمادها على الوحي، وقوة صلة أتباعها بالله، وتحقيق العبودية له وحده، والتوكل عليه وحده، وقوة يقينهم بما معهم من الحق، وسلامتهم من الحيرة في الدين، ومن القلق والشك والشبهات، بخلاف أهل البدع فلا تخلو أهدافهم من علة من هذه العلل.
    أصدق مثال على ذلك: ما حصل لكثير من أئمة علم الكلام والفلسفة والتصوف، من اضطراب وتقلب وندم، بسبب ما حصل بينهم من مجانبة عقيدة السلف، ورجوع كثير منهم إلى التسليم، وتقرير ما يعتقده السلف، خاصة عند التقدم في السن، أو عند الموت.
    كما حصل للإمام أبي الحسن الأشعري، حيث رجع إلى عقيدة أهل السنة والجماعة في (الإبانة) بعد الاعتزال ثم التلفيق. والباقلاني (ت 403هـ) في (التمهيد). ومثله أبو محمد الجويني (ت 438هـ)، والد إمام الحرمين في (رسالة في إثبات الاستواء والفوقية). ومثله إمام الحرمين (ت 478هـ) في (الرسالة النظامية). والشهرستاني، (ت 548هـ) في (نهاية الإقدام). والرازي ( فخر الدين ) (ت 606هـ) في (أقسام الملذات) وغيرهم كثيرون، سلامة أتباعها - في العموم - من التلبس بالبدع والشركيات والآثام والكبائر، فأهل السنة في عمومهم، هم أسلم الناس من الوقوع في البدع، ولا تكون فيهم الشركيات. أما الذنوب والمعاصي والكبائر فقد يقع فيها طوائف منهم لكنها فيهم أقل من غيرهم، وغيرهم لا يسلم من علة من هذه العلل البدعية والشركية، كما أن المعاصي والكبائر هي في أهل الافتراق أكثر من غيرهم في الجملة.
    فالمتكلمة من المعتزلة، وكثير من الأشاعرة ونحوهم قالوا في الله بغير علم، وخاضوا في الغيب بغير علم، والمتصوفة والمقابريون وسائر أهل البدع عبدوا الله بغير ما شرع، والرافضة، والباطنية ونحوهم كذبوا على الله تعالى وافتروا على رسوله صلى الله عليه وسلم حتى صار الكذب ديناً لهم، والخوارج تشددوا في الدين فشدد الله عليهم.





    أنها سبب الظهور والنصر والفلاح في الدارين

    من أبرز خصائص عقيدة أهل السنة: أنها من أسباب النجاح والنصر والتمكن لمن قام بها ودعا إليها بصدق وعزم وصبر.فالطائفة التي تتمسك بهذه العقيدة، عقيدة أهل السنة والجماعة، هي الطائفة الظاهرة والمنصورة التي لا يضرها من خذلها ولا من عاداها إلى يوم القيامة. كما أخبرنا بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))



    هي عقيدة الجماعة والاجتماع

    ذلك أنها الطريقة المثلى لجمع شمل المسلمين ووحدة صفهم، وإصلاح ما فسد من شئون دينهم ودنياهم، لأنها تردهم إلى الكتاب والسنة وسبيل المؤمنين، وهذه الخاصية لا يمكن أن تتحقق على يد فرقة أو دعوة أو أنظمة لا تقوم على هذه العقيدة أبداً، والتاريخ شاهد على ذلك، فالدول التي قامت على السنة هي التي جمعت شمل المسلمين وقام بها الجهاد والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعز بها الإسلام قديماً وحديثاً، منذ عهد الخلفاء الراشدين، والدولة العباسية في أول عهدها، والدولة العثمانية في أول عهدها، وعهد صلاح الدين الأيوبي، والدولة الإسلامية في الأندلس، وعهد الدولة السعودية، حيث نصرت السنة، ودعت إلى التوحيد، وحاربت البدع والشركيات، وطهّرت البلاد المقدسة منها، ولا تزال كذلك - بحمد الله -، وينبغي أن تبقى كذلك على عهدها. وغالب هذه الدول حينما حدث فيها الافتراق وسادت فيها البدع فشلت وانهارت، والدول التي قامت على غير السنة، أشاعت الفوضى والفرقة والبدع والمحدثات، ومزقت الشمل، وعطلت الجهاد، وأشاعت المنكرات، وصارت على يدها الهزائم، وانتشر في عهدها الجهل بالدين، واندثرت السنة، مثل دول الرافضة والباطنية،والقرامطة، والصوفيّة، وكدولة بني بويه، والفاطميين (العبيديين)، التي مزقت المسلمين، وأشاعت بينهم البدع والشركيات. ولما صارت للمعتزلة وزارة ومراكز في عهد بعض الخلفاء العباسيين ظهرت البدع الكلامية، وحوصر أئمة أهل السنة، وافتتن الناس - بل العلماء - في دينهم.




    البقاء والثبات والاستقرار

    من أهم خصائص عقيدة أهل السنة: البقاء والثبات والاستقرار والاتفاق: فعقيدتهم في أصول الدين ثابتة طيلة هذه القرون، وإلى أن تقوم الساعة، بمعنى أنها متفقة ومستقرة ومحفوظة، رواية ودراية، في ألفاظها ومعانيها، تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل، لم يتطرق إليها التبديل ولا التحريف، ولا التلفيق ولا الالتباس، ولا الزيادة ولا النقص.
    ومن أسباب ذلك: أنها مستمدة من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وقد تلقاها الصحابة ثم التابعون، وتابعوهم، وأئمة الهدى المستمسكون بهديه صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، رواية ودراية، تلقيناً وكتابة.
    من ذلك مثلاً قول أهل السنة في الصفات إجمالاً وتفصيلاً، فهو لا يزال واحداً، وقولهم في كلام الله، والقرآن، والاستواء، والنزول والرؤية، وقولهم في القدر، والإيمان، والشفاعة، والتوسل، وغيرها كله لا يزال كما نقل عن السلف والقرون الفاضلة. وهذا مما تكفل به الله من حفظ دينه.
    بخلاف الفرق الأخرى، وأقربها إلى أهل السنة الأشاعرة والماتريدية، ومع ذلك فهم مضطربون في كل ما خالفوا به السلف مما أولوه أو ابتدعوه، ويكثر في عقائدهم التلفيق والالتباس والاضطراب، والتوقف فيما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وابتداع الألفاظ والمعاني التي لم ترد عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم

    مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن عبد الكريم العقل - ص 29




    أولاً: التوقيفية (الربانية)

    وتعني أن أهل السنة لا يقتبسون عقيدتهم إلا من مشكاة النبوة، قرآنا وسنة، لا عقل ولا ذوق ولا كشف، ولا يجعلون شيئا من ذلك معارضا للوحي، بل هذه إن صحت كانت معضدة لحجة السمع، فالوحي هو الأصل المعتمد في تقرير مسائل الاعتقاد.
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty رد: العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 7:14 am

    المبحث الأول: تعريف التوحيد لغة واصطلاحا


    التوحيد في اللغة: مشتق من وحد الشيء إذا جعله واحداً، فهو مصدر وحد يوحد، أي: جعل الشيء واحداً.
    وفي الشرع: إفراد الله - سبحانه - بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات

    القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/11

    قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه: لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) ..., وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث، التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة! وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالداً، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة. فإن الشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، لأن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار.
    بل لا بد من قول القلب، وقول اللسان.
    وقول القلب: يتضمن من معرفتها والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب علماً ومعرفة ويقيناً وحالاً: ما يوجب تحريم قائلها على النار.وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة،... ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل هو أنه حصل له ما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات.وتأمل أيضاً ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية فجعل ينوء بصدره، ويعالج سكرات الموت، لأن ذلك كان أمراً آخر، وإيماناً آخر ولذلك ألحق بأهل القرية الصالحة. وقريب من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش، يأكل الثرى فقام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها خفها بفيها وهو ملآن حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكوراً. فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها .وقد ورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم ((من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله))

    الولاء والبراء في الإسلام لسعيد بن علي بن وهف القحطاني - ص46





    المبحث الثاني: العلاقة بين التوحيد والعقيدة

    وعلم العقيدة وعلم التوحيد مترادفان عند أهل السنة، وإنما سمي علم التوحيد بعلم العقيدة بناء على الثمرة المرجوة منهن وهي انعقاد القلب انعقادا جازما لا يقبل الانفكاك

    المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية على مذهب أهل السنة لإبراهيم بن محمد البريكان - ص10


    وقد يفرق بينهما اصطلاحا باعتبار أن علم التوحيد هو العلم الذي يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالأدلة المرضية، وأن علم العقيدة يزيد عليه برد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية، فيجتمعان في معرفة الحق بدليله، وتكون العقيدة أعم موضوعا من التوحيد لأنها تقرر الحق بدليله وترد الشبهات وقوادح الأدلة وتناقش الديانات والفرق، وقد جرى السلف على تسمية كتبهم في التوحيد والإيمان بكتب العقيدة، كما فعل أبو عثمان الصابوني رحمه الله في كتابه (عقيدة السلف أصحاب الحديث) والإمام اللالكائي رحمه الله في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص82



    المبحث الثالث: فضل علم التوحيد

    من حقق التوحيد دخل الجنة: قوله: (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب) أي ولا عذاب. (قلت) تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي

    فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - ص57


    ذكر المؤلف (يعني: محمد بن عبدالوهاب) فضل التوحيد، ولا يلزم من ثبوت الفضل للشيء أن يكون غير واجب، بل الفضل من نتائجه وآثاره.ومن ذلك صلاة الجماعة ثبت فضلها بقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) .
    ولا يلزم من ثبوت الفضل فيها أن تكون غير واجبة؛ إذ إن التوحيد أوجب الواجبات، ولا تقبل الأعمال إلا به، ولا يتقرب العبد إلى ربه إلا به، ومع ذلك؛ ففيه فضل

    القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/70


    إذا كانت العلوم الشرعية كلها فاضلة لتعلقها بالوحي المطهر؛ فإن علم التوحيد في الذروة من هذا الفضل العميم، حيث حاز الشرف الكامل دون غيره من العلوم، وذلك يظهر بالنظر إلى جهات ثلاث: موضوعه، ومعلومه، والحاجة إليه.
    فضله من جهة موضوعه: من المتقرر أن المتعلق يشرف بشرف المتعلق، فالتوحيد يتعلق بأشرف ذات، وأكمل موصوف، بالله الحي القيوم، المتفرد بصفات الجلال والجمال والكمال، ونعوت الكبرياء والعزة؛ لذا كان علم التوحيد أشرف العلوم موضوعا ومعلوما، وكيف لا يكون كذلك وموضوعه رب العالمين، وصفوة خلق الله أجمعين، ومآل العباد إما إلى جحيم أو إلى نعيم، ولأجل هذا سماه بعض السلف الفقه الأكبر.وتحقيق التوحيد هو أشرف الأعمال مطلقاً... وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله ورسوله)) .وهو موضوع دعوة رسل الله أجمعين، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وجميع الرسل إنما دعوا إلى{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم، فقال نوح لقومه:{اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .
    والله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل إقامة التوحيد بين العبيد، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وله خلق الجن والإنس، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، أي: يوحدون..، فأهم ما على العبد معرفته هو التوحيد، وذلك قبل معرفة العبادات كلها حتى الصلاة.
    فضله من جهة معلومه: إن معلوم علم التوحيد هو مراد الله الشرعي، الدال عليه وحيه وكلامه الجامع للعقائد الحقة، كالأحكام الاعتقادية المتعلقة بالإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والبعث بعد الموت.
    ومراد الله تعالى يجمع أموراً ثلاثة، وتترتب عليه أمور ثلاثة، فهو يجمع أن الله تعالى أراده وأحبه فأمر به، ويترتب على كونه أمر به أن يثيب فاعله، ويعاقب تاركه، وأن ينهي عن مخالفته، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فالأمر بالتوحيد نهي عن الشرك ولابد.قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]، قال عمر رضي الله عنه: ((قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي، وهو قائم بعرفة يوم جمعة)) .
    فاجتمع لدى نزولها ثلاثة مناسبات لا تجتمع بعد ذلك أبداً:

    عيد وعيد وعيد صرن مجتمعة
    وجه الحبيب ويوم العيد والجمعة


    فنزلت في عيد المسلمين الأسبوعي، وهو يوم الجمعة، الذي وافق عيد الحجاج، وهو يوم عرفة، وهو اليوم الذي حضره النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته حاجاً، واجتمع بهم اجتماعه الأكبر والأخير.
    ومعلوم علم التوحيد هو الأحكام الاعتقادية المكتسبة من الأدلة المرضية، من كتاب ناطق وسنة ماضية.وقطب رحى القرآن العظيم من فاتحته إلى خاتمته في تقرير معلوم التوحيد. يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله: اعلم أن فاتحة الكتاب العزيز التي يكررها كل مسلم في كل صلاة مرات، ويفتتح بها التالي لكتاب الله والمتعلم له، فيها الإرشاد إلى إخلاص التوحيد في ثلاثين موضعاً .والتوحيد هو فاتحة القرآن العظيم وهو خاتمته، فهو فاتحة القرآن كما في أول سورة الفاتحة:{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وهو في خاتمة القرآن العظيم{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] .
    فالقرآن من فاتحته إلى خاتمته في تقرير التوحيد بأنواعه، أو في بيان حقوق التوحيد ومقتضياته ومكملاته، أو في البشارة بعاقبة الموحدين في الدنيا والآخرة، أو في النذارة بعقوبة المشركين والمعاندين في الدارين، ثم إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته في بيان القرآن بيانا عمليا تحققت فيها معاني التوحيد، وحسمت فيه مواد الشرك على الوجه الأتم الأكمل.قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته ويحسم عنهم مواد الشرك، إذ هذا تحقيق قولنا: لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب لكمال المحبة والتعظيم، والإجلال والإكرام، والرجاء والخوف .
    فضله من جهة الحاجة إليه:
    وأما فضل علم التوحيد باعتبار الحاجة إليه، فيظهر ذلك بالنظر إلى جملة أمور، منها:
    أن الله تعالى طلبه، وأمر به كل مكلف، وأثنى على أهله، ومدح من توسل به إليه، ووعدهم أجراً عظيماً.
    قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقال عز من قائل: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [البينة:5].
    وقال سبحانه وتعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136].
    وقال سبحانه: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19].
    وقال عز وجل:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]، وقال تقدست أسماؤه:{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} إلى قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 193 – 195].
    وقال عز وجل: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146].
    ومنها أن عقيدة التوحيد هي الحق الذي أرسلت من أجله جميع الرسل.
    قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
    وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].وهي حق الله على عباده كما في حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)) .
    وهي ملة أبينا إبراهيم عليه السلام التي أمرنا الله باتباعها، قال تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وهي أيضاً دعوته عليه السلام، قال تعالى على لسانه:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
    ومنها أن الله تعالى جعل الإيمان شرطا لقبول العمل الصالح وانتفاع العبد به في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94]. وقال سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19].
    فإذا جاء العبد بغير الإيمان فقد خسر جميع عمله الصالح، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
    ومنها أن سعادة البشرية في الدنيا متوقفة على علم التوحيد، فحاجة العبد إليه فوق كل حاجة، وضرورته إليه فوق كل ضرورة، فلا راحة ولا طمأنينة ولا سعادة إلا بأن يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة صحيحة، صادقة ناصحة، وهي جهة الوحي.قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: حاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب، فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها، مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا، أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبدا .
    ولهذا سمى الله تعالى غير الموحد ميتا حقيقة، قال تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُون} [الروم: 52-53].فمقابلة الموتى بالسامعين تدل على أن الموتى هم المشركون والكافرون، وهذا تفسير جمهور السلف .
    وقيل المراد بالموتى: موتى الأبدان، فنفي السماع يعني نفي الاهتداء، فكما قيل إن الميت يسمع ولا يمتثل، فهؤلاء الأحياء من الكفار حين يسمعون القرآن كالموتى حقيقة حين يسمعون فلا يمتثلون ولا ينتفعون.
    ومما يشهد لهذين المعنيين أن الله تعالى سمى ما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم روحا لتوقف الحياة الحقيقية عليه، وسماه نورا لتوقف الهداية عليه، وسماه شفاء لأنه دواء للنفوس من عللها.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، فكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها، فهو في ظلمة وهو من الأموات.
    قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122]، فهذا وصف المؤمن كان ميتا في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورا يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات.وسمى الله تعالى الرسالة روحا، والروح إذا عدمت فقد فقدت الحياة، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} [سورة الشورى: 52]

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص124

    المبحث الرابع: فوائد التوحيد

    فمن فوائد التوحيد:
    1- أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله سبحانه وتعالى؛ وعليه، فهو يعمل سراً وعلانية، أما غير الموحد؛ كالمرائي مثلاً، فإنه يتصدق ويصلي، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف: إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو.
    2- أن الموحدين لهم الأمن وهم مهتدون؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

    القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/75
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty رد: العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 7:17 am



    تمهيد

    من العلماء من قسم التوحيد على قسمين:
    التوحيد (نوعان):
    الأول: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي المتضمن إثبات صفات الكمال لله عز وجل وتنزيهه فيها عن التشبيه والتمثيل و تنزيهه عن صفات النقص وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
    والثاني: التوحيد الطلبي القصدي الإرادي وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له وتجريد محبته والإخلاص له وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه والرضا به ربا وإلها ووليا وأن لا يجعل له عدلا في شيء من الأشياء وهو توحيد الإلهية

    معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص122


    والتوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات. وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات. وتوحيد في الطلب والقصد. وهو توحيد الإلهية والعبادة.
    قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.
    فالأول هو: إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك.
    النوع الثاني: ما تضمنته سورة قل يا أيها الكافرون وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها. وأول سورة المؤمنون ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها. وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن. بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، شاهدة به داعية إليه.
    فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل به في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب. فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم. انتهى.
    قال شيخ الإسلام: التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله: لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله. وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات. قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] قال تعالى: {وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51] وقال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] وقال عن المشركين:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} [الصافات: 35] وهذا في القرآن كثير

    فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - ص11


    ومنهم من جعله ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.




    المبحث الأول: توحيد الربوبية


    معناه الاعتقاد الجازم بأن الله وحده رب كل شيء ومليكه، لا شريك له، وهو الخالق وحده وهو مدبر العالم والمتصرف فيه، وأنه خالق العباد ورازقهم ومحييهم ومميتهم، والإيمان بقضاء الله وقدره وبوحدانيته في ذاته، وخلاصته هو: توحيد الله تعالى بأفعاله.
    وقد قامت الأدلة الشرعية على وجوب الإيمان بربوبيته سبحانه وتعالى، كما في قوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1].
    وقوله:{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
    وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29].
    وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].
    وهذا النوع من التوحيد لم يخالف فيه كفار قريش، وأكثر أصحاب الملل والديانات؛ فكلهم يعتقدون أن خالق العالم هو الله وحده، قال الله تبارك وتعالى عنهم:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25].
    وقال: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [المؤمنون: 84-90].
    وذلك لأن قلوب العباد مفطورة على الإقرار بربوبيته سبحانه وتعالى ولذا فلا يصبح معتقده موحداً؛ حتى يلتزم بالنوع الثاني من أنواع التوحيد، توحيد الألوهية

    الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص55

    التوحيد العملي الخبري الاعتقادي (المتضمن إثبات صفات الكمال لله عز وجل وتنزيهه فيها عن التشبيه والتمثيل و تنزيهه عن صفات النقص وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات ) وهو (إثبات) بالرفع بدل بعض من قولنا (نوعان) أي الأول منهما (إثبات ذات الرب جل وعلا) فإن هذه العوالم العلويات والسفليات لا بد لها من موجد أوجدها ويتصرف فيها ويدبرها. ومحال أن توجد بدون موجد, ومحال أن توجد أنفسها. قال الله تبارك وتعالى في مقام إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور: 35-37]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي من غير رب . ومعناه أخلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق, وذلك مما لا يجوز أن يكون لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم فلا بد له من خالق فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق. {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} لأنفسهم وذلك في البطلان أشد لأن ما لا وجود له كيف يخلق فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا فليؤمنوا بـه {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} وهذا في البطلان أشد وأشد فإن المسبوق بالعدم يستحيل أن يوجد نفسه فضلا عن أن يكون موجدا لغيره وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله عز وجل وهم يعلمون أنه الخالق لا شريك له {بَل لاَّ يُوقِنُونَ} أي ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك. وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور, فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ} [الطور: 35-36] كاد قلبي أن يطير)) .وكثيرا ما يرشد الله تبارك وتعالى عباده إلى الاستدلال على معرفته بآياته الظاهرة من المخلوقات العلوية والسفلية كما قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] أي: فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة, مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات والمهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار واختلاف ألسنة الناس وألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى وما بينهم من التفاوت في العقول والفهم والحركات والسعادة والشقاوة وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه, ولهذا قال عز وجل: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، قال قتادة: من تفكر في خلق نفسه علم أنه إنما لينت مفاصله للعبادة , وكذا ما في ابتداء الإنسان من الآيات العظيمة إذ كانت نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما إلى أن نفخ فيه الروح. وقال تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 47-49] يقول تعالى منبها على خلق العالم العلوي والسفلي: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا} أي جعلناها سقفا رفيعا {بِأَيْدٍ} أي بقوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغير واحد , {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: لقادرون. وعنه أيضا: لموسعون الرزق على خلقنا. وقيل: ذو وسعة . وقال ابن كثير: أي قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي . {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} أي جعلناها فراشا للمخلوقات {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} الباسطون نحن. قال ابن عباس: نعم ما وطَّأت لعبادي . {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} صنفين ونوعين كالسماء والأرض, والشمس والقمر, والليل والنهار, والبر والبحر, والسهل والجبل, والشتاء والصيف, والجن والإنس, والذكر والأنثى, والنور والظلمة, والإيمان والكفر, والسعادة والشقاوة, والجنة والنار, الحق والباطل, والحلو والمر, والدنيا والآخرة, والموت والحياة والجامد والنامي والمتحرك والساكن, والحر والبرد وغير ذلك {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لتعلموا أن الخالق واحد فرد لا شريك له.اهـ. ابن كثير والبغوي . وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] وقال أبو الضحى: لما نزلت {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] قال المشركون إن كان هكذا فليأتنا بآية, فأنزل الله عز وجل {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها, وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع {وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} هذا يجئ ثم يذهب ويخلفه الآخر. ويعقبه ولا يتأخر عنه لحظة كما قال تعالى:{لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] وتارة يطول هذا ويقصر هذا وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتعاوضان, كما قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الحديد: 6] أي يزيد من هذا في هذا ومن هذا في هذا {وَالفُلْكَ تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاس} أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم ونقل هذا إلى هؤلاء {وَمَا أَنْزَلَ الله مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} كما قال تعالى: {وَآيَةً لَهُمْ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا ِمْنَها حَبَاً فَمِنْهُ يَأْكُلُون} [يس: 33] إلى قوله {وَمِمَّا لا يَعْلَمُون}. {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّة} على اختلاف أشكالها وأنواعها ومنافعها وصغرها وكبرها وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شيء من ذلك كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِين}. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاح} فتارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب وهي الريح, وتارة تأتي مبشرات بين يدي السحاب, وتارة تسوقها, وتارة تجمعه, وتارة تفرقه, وتارة تصرفه, ثم تارة تأتي من الشمال وهي الشامية, وتارة تأتي من ناحية اليمن, وتارة صبا وهي الشرقية, وتارة دبور وهي غربية وغير ذلك والله أعلم. {وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض} أي سائر بين السماء والأرض مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن كما يصرفه تعالى {لآيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون} أي في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى {لِقَوْمٍ يَعْقِلُون} فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقا وصانعا وكل ما سواه عاجز لا قدرة له إلا بما أقدره، متصف بجميع صفات الكمال, وكل ما سواه فلازمه النقص وليس الكمال المطلق إلا له وهو الله تبارك وتعالى. وقال تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُون. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة, إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يتفكرون} [الروم:20-25]. يقول تعالى {وَمِنْ آيَاتِه} الدالة على عظمته وكمال قدرته أنه خلق أباكم آدم من تراب {ثُمَّ أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُون} فأصلكم من تراب ثم من ماء مهين, ثم تصور فكان علقة ثم مضغة ثم صار عظاما شكله شكل إنسان ثم كسا الله تعالى العظام لحما ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير, ثم أخرج من بطن أمه صغيرا ضعيف القوى والحركة ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون ويسافر في أقطار الأقاليم ويركب متن البحور, ويدور أقطار الأرض ويكتسب ويجمع الأموال وله فكر وغور ودهاء ومكر, ورأي وعلم, واتساع في أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه, فسبحان من أقدرهم وسيرهم وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب وفاوت بينهم في العلوم والفكر والحسن والقبح والغنى والفقر والسعادة والشقاوة. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض, جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك, والخبيث والطيب والسهل والحزن وغير ذلك)) . {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} أي خلق لكم من جنسكم إناثا تكون لكم أزواجا {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} كما قال تعالى: {هُوَ الذِّي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] يعني بذلك حواء خلقها الله تعالى من آدم من ضلعه الأقصر الأيسر, ولو أنه تعالى جعل بني آدم كلهم ذكورا وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم إما من جان أو حيوان لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج, بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس, ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل الأزواج من جنسهم {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّة} وهي المحبة {وَرَحْمَة} وهي الرأفة, فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبة لها أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد أو محتاجة إليه في الإنفاق أو الألفة بينهما وغير ذلك {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٌ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} في عظمة الله وقدرته {وَمِنْ آيَاتِه} الدالة على قدرته العظيمة {خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض} أي خلق السموات في ارتفاعها واتساعها وشفوف أجرامها وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت والسيارات, وخلق الأرض في انخفاضها وكثافتها وما فيها من جبال وأودية وبحار وقفار وحيوان وأشجار {وَاخْتِلافِ أَلْسِنَتِكُمْ} يعني اللغات, فهؤلاء بلغة العرب, وهؤلاء تتر لهم لغة خاصة, وهؤلاء كرج , وهؤلاء روم, وهؤلاء إفرنج, وهؤلاء بربر, وهؤلاء حبشة, وهؤلاء هنود, وهؤلاء فرس, وهؤلاء صقالبة, وهؤلاء خزر, وهؤلاء أرمن, وهؤلاء أكراد, إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله عز وجل من اختلاف لغات بني آدم {وَأَلْوَانِكُم} أي اختلاف ألوانكم أبيض وأسود وأحمر, وأنتم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة, وغير ذلك من اختلاف الصفات والحلى, فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان وليس يشبه واحد منهم الآخر, بل لابد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهرا كان أو خفيا يظهر عند التأمل كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئة لا تشبه أخرى, ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ للعَالَمِين. وَمِنْ آيَاتِه مَنَاُمُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاءُكُمْ مِنْ فَضْلِه إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاٍت لِقَوْمٍ يَسْمَعُون} [الروم:22-23] أي ومن الآيات ما جعل الله من صفة النوم في الليل فإن فيه تحصل الراحة وسكون الحركة وذهاب الكلال والتعب, وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار وهذا ضد النوم, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاٍت لِقَوْمٍ يَسْمَعُون} سماع تدبر واعتبار {وَمِنْ آيَاتِه} الدالة على عظمته أنه {يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعا} [الروم:24] أي تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة وصواعق متلفة, وتارة ترجون وميضه وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه, ولهذا قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} أي بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الَماَء اهْتَزَّتَ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج} [الحج: 5] وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة على المعاد وقيام الساعة, ولهذا قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرَضْ بِأَمْرِه} [الروم: 25-26] كقوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِه} [الحج: 65] وقوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِه} [فاطر: 41] وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين قال: (والذي قامت السموات والأرض بأمره) أي هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها, ثم إذا كان يوم القيامة بدلت الأرض غير الأرض والسموات, وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم, ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوُةً مِنَ الأَرْضِ إَذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُون} أي: من الأرض كما قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 52] وقال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13-14] وقال تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُون} [يس: 53]. والآيات في هذا الكتاب العظيم من الاستدلال بالمخلوقات على وجود خالقها وقدرته وعظمته أكثر من أن تحصى وأجل من أن تستقصى, وفيما ذكرنا كفاية وغنى يغني عن خرط المناطقة ومقدماتهم ونتائجهم وتناقضاتهم فيها, والله تبارك وتعالى أعلى وأكبر وأجل وأعظم من أن يحتاج في معرفة وجوده إلى شواهد واستدلالات, فذات المخلوق نفسه شاهدة بوجود خالقه حيث أوجده ولم يكن من قبل شيئا, فلم يذهب يستدل بغيره وفي نفسه الآية الكبرى والبرهان الأعظم, وشأن الله تعالى أكبر من ذلك, ولم يجحد وجوده تعالى من جحده من أعدائه إلا على سبيل المكابرة, ولهذا قال تعالى في كفرهم بآياته: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوا} [النمل: 14] فكيف بوجود الخالق تبارك وتعالى. ولهذا لما قال أعداء الله لرسله على سبيل المكابرة لما جاءوهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم: 9-10]. وهذا يحتمل شيئين: أحدهما: أفي وجوده تعالى شك, فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به, فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة ولكن قد يعرض لغيرها شك واضطراب وأكثر من ذلك على سبيل المكابرة والاستهزاء, فيجب إقامة الحجة عليهم للإعذار إليهم, ولهذا قالت لهم رسلهم ترشدهم إلى طريق معرفته فقالوا: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سابق, فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهرة عليهما فلا بد لهما من خالق وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه. والمعنى الثاني: في قولهم {أَفِي اللّهِ شَكٌّ} أي أفي إلهيته وتفرده بوجود العبادة له شك وهو خالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له, فإن غالب الأمم كانت مقرة بالخالق ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم, والجواب لهذا الاستفهام على كلا المعنيين: لا, أي لا شك فيه

    معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص122


    توحيد الربوبية: هو إفراد الله - عز وجل - بالخلق، والملك، والتدبير. فإفراده بالخلق: أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله، قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، فهذه الجملة تفيد الحصر لتقديم الخبر؛ إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [فاطر: 3]؛ فهذه الآية تفيد اختصاص الخلق بالله، لأن الاستفهام فيها مشرب معنى التحدي.فإفراده بالخلق: أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله، قال تعالى: {ألا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فهذه الجملة تفيد الحصر لتقديم الخبر؛ إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [فاطر: 3]؛ فهذه الآية تفيد اختصاص الخلق بالله، لأن الاستفهام فيها مشرب معنى التحدي. أما ما ورد من إثبات خلق غير الله؛ كقوله تعالى: {فتبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، وكقوله صلى الله عليه وسلم في المصورين: ((يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) . فهذا ليس خلقاً حقيقة، وليس إيجاداً بعد عدم، بل هو تحويل للشيء من حال إلى حال، وأيضاً ليس شاملاً، بل محصور بما يتمكن الإنسان منه، ومحصور بدائرة ضيقة؛ فلا ينافي قولنا: إفراد الله بالخلق.
    إفراد الله بالتدبير: فهو أن يعتقد الإنسان أنه لا مدبر إلا الله وحده؛ كما قال تعالى:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31].
    وأما تدبير الإنسان؛ فمحصور بما تحت يده، ومحصور بما أذن له فيه شرعاً. وهذا القسم من التوحيد لم يعارض فيه المشركون الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا مقرين به، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، فهم يقرون بأن الله هو الذي يدبر الأمر، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، ولم ينكره أحد معلوم من بني آدم؛ فلم يقل أحد من المخلوقين: إن للعالم خالقين متساويين.
    فلم يجحد أحد توحيد الربوبية، لا على سبيل التعطيل ولا على سبيل التشريك، إلا ما حصل من فرعون؛ فإنه أنكره على سبيل التعطيل مكابرة؛ فإنه عطل الله من ربوبيته وأنكر وجوده، قال تعالى حكاية عنه: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. وهذا مكابرة منه لأنه يعلم أن الرب غيره؛ كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]، وقال تعالى حكاية عن موسى وهو يناظره: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102]؛ فهو في نفسه مقر بأن الرب هو الله عز وجل.
    وأنكر توحيد الربوبية على سبيل التشريك المجوس، حيث قالوا: إن للعالم خالقين هما الظلمة والنور، ومع ذلك لم يجعلوا هذين الخالقين متساويين، فهم يقولون: إن النور خير من الظلمة؛ لأنه يخلق الخير، والظلمة تخلق الشر، والذي يخلق الخير خير من الذي يخلق الشر.
    وأيضاً؛ فإن الظلمة عدم لا يضيء، والنور وجود يضيء؛ فهو أكمل في ذاته.
    ويقولون أيضاً بفرق ثالث، وهو: أن النور قديم على اصطلاح الفلاسفة، واختلفوا في الظلمة، هل هي قديمة، أو محدثة؟ على قولين

    القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/11
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty رد: العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 7:19 am

    المبحث الثاني: توحيد الألوهية

    هو إفراد الله تعالى بأفعال العباد، ويسمى توحيد العبادة، ومعناه الاعتقاد الجازم بأن الله - سبحانه وتعالى - هو: الإله الحق ولا إله غيره، وكل معبود سواه باطل، وإفراده تعالى بالعبادة والخضوع والطاعة المطلقة، وأن لا يشرك به أحد كائناً من كان، ولا يصرف شيء من العبادة لغيره؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والدعاء، والاستعانة، والنذر، والذبح، والتوكل، والخوف والرجاء، والحب، وغيرها من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، وأن يعبد الله بالحب والخوف والرجاء جميعا، وعبادته ببعضها دون بعض ضلال.
    قال الله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]
    وقال:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117].
    وتوحيد الألوهية هو ما دعت إليه جميع الرسل، وإنكاره هو الذي أورد الأمم السابقة موارد الهلاك.
    وهو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها ولأجله أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وسلت سيوف الجهاد، وفرق بين المؤمنين والكافرين، وبين أهل الجنة وأهل النار.
    وهو معنى قوله تعالى:{لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.}
    قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
    ومن كان رباً خالقاً، رازقاً، مالكاً، متصرفاً، محيياً، مميتاً، موصوفاً بكل صفات الكمال، ومنزهاً من كل نقص، بيده كل شيء؛ وجب أن يكون إلهاً واحداً لا شريك له، ولا تصرف العبادة إلا إليه، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وتوحيد الربوبية من مقتضيات توحيد الألوهية؛ لأن المشركين لم يعبدوا إلهاً واحداً، وإنما عبدوا آلهة متعددة، وزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى، وهم مع ذلك معترفون بأنها لا تضر ولا تنفع؛ لذلك لم يجعلهم الله مؤمنين رغم اعترافهم بتوحيد الربوبية؛ بل جعلهم في عداد الكافرين بإشراكهم غيره في العبادة.
    ومن هنا يختلف معتقد السلف –أهل السنة والجماعة– عن غيرهم في الألوهية؛ فلا يعنون كما يعني البعض أن معنى التوحيد أنه لا خالق إلا الله فحسب؛ بل إن توحيد الألوهية عندهم لا يتحقق إلا بوجود أصلين:
    الأول: أن تصرف جميع أنواع العبادة له سبحانه دون ما سواه، ولا يعطى المخلوق شيئاً من حقوق الخالق وخصائصه. فلا يعبد إلا الله، ولا يصلى لغير الله، ولا يسجد لغير الله، ولا ينذر لغير الله، ولا يتوكل على غير الله، وإن توحيد الألوهية يقتضي إفراد الله وحده بالعبادة. والعبادة: إما قول القلب واللسان وإما عمل القلب والجوارح.
    قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163]. وقال سبحانه:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3].
    الثاني: أن تكون العبادة موافقة لما أمر الله تعالى به، وأمر رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
    فتوحيد الله سبحانه بالعبادة والخضوع والطاعة هو تحقيق شهادة أن: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
    ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والإذعان لما أمر به ونهى عنه هو تحقيق أن: محمداً رسول الله.
    فمنهج أهل السنة والجماعة:
    أنهم يعبدون الله تعالى ولا يشركون به شيئاً، فلا يسألون إلا الله، ولا يستعينون إلا بالله، ولا يستغيثون إلا به سبحانه، ولا يتوكلون إلا عليه جل وعلا، ولا يخافون إلا منه، ويتقربون إلى الله تعالى بطاعته، وعبادته، وبصالح الأعمال، قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36]

    الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص56


    ويقال له: توحيد العبادة باعتبارين؛ فاعتبار إضافته إلى الله يسمى: توحيد الألوهية، وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى توحيد العبادة.
    وهو إفراد الله - عز وجل - بالعبادة.
    فالمستحق للعبادة هو الله تعالى، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان: 30].
    والعبادة تطلق على شيئين:
    الأول: التعبد: بمعنى التذلل لله - عز وجل - بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ محبة وتعظيماً.
    الثاني: المتعبد به؛ فمعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
    مثال ذلك: الصلاة؛ ففعلها عبادة، وهو التعبد، ونفس الصلاة عبادة، وهو المتعبد به.
    فإفراد الله بهذا التوحيد: أن تكون عبداً لله وحده تفرده بالتذلل؛ محبة وتعظيماً، وتعبده بما شرع، قال تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} [الإسراء: 22]. وقال تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]؛ فوصفه سبحانه بأنه رب العالمين كالتعليل لثبوت الألوهية له؛ فهو الإله لأنه رب العالمين، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]؛ فالمنفرد بالخلق هو المستحق للعبادة.
    إذ من السفه أن تجعل المخلوق الحادث الآيل للفناء إلهاً تعبده؛ فهو في الحقيقة لن ينفعك لا بإيجاد ولا بإعداد ولا بإمداد، فمن السفه أن تأتي إلى قبر إنسان صار رميماً تدعوه وتعبده، وهو بحاجة إلى دعائك، وأنت لست بحاجة إلى أن تدعوه؛ فهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؛ فكيف يملكه لغيره؟‍!
    وهذا القسم كفر به وجحده أكثر الخلق، ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل، وأنزل عليهم الكتب، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].ومع هذا؛ فأتباع الرسل قلة، قال عليه الصلاة والسلام: ((فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد)) .
    • تنبيه:
    من العجب أن أكثر المصنفين في علم التوحيد من المتأخرين يركزون على توحيد الربوبية، وكأنما يخاطبون أقواماً ينكرون وجود الرب -وإن كان يوجد من ينكر الرب ـ، لكن ما أكثر المسلمين الواقعين في شرك العبادة‍‍!!.
    ولهذا ينبغي أن يركز على هذا النوع من التوحيد حتى نخرج إليه هؤلاء المسلمين الذين يقولون بأنهم مسلمون، وهم مشركون، ولا يعلمون.

    القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/16

    (وهو) أي توحيد الإلهية (الذي به الإله) عز وجل (أرسل رسله) من أولهم إلى آخرهم (يدعون إليه أولا) قبل كل أمر يدعو إلى شيء قبله, فهم وإن اختلفت شرائعهم في تحديد بعض العبادات والحلال والحرام لم يختلفوا في الأصل الذي هو إفراد الله سبحانه بتلك العبادات افترقت أو اتفقت, لا يشرك معه فيها غيره. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن معاشر الأنبياء أولاد علات, ديننا واحد)) وقد أخبر الله عز وجل عن اتفاق دعوة رسله إجمالاً وتفصيلاً فقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالذِّي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه} [الشورى: 13] وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك بقية الرسل, وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يَعْبُدُون} [الزخرف: 45] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 25] وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أَمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} [النحل: 36] وقال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 16-165] وفي الصحيح عن المغيرة رضي الله عنه قال: ((قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تعجبون من غيرة سعد, والله لأنا أغير منه, والله أغير مني, ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحد أحب إليه العذر من الله, ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين. ولا أحد أحب إليه المدحة من الله, ومن أجل ذلك وعد الله الجنة)) .وأما مقامات التفصيل فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} [الأعراف: 59] إلى آخر الآيات, وقال تعالى: {وَإِلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُون} [الأعراف: 65] إلى آخر الآيات وقال تعالى: {إِلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قُوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} [الأعراف: 73] إلى آخر الآيات, وقال الله تعالى: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} [الأعراف: 85] إلى آخر الآيات, وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 74-78]. وهذا في مقام مناظرته عليه الصلاة والسلام لعباد الكواكب على سبيل الاستدراج أو التوبيخ ليبين لهم سخافتهم وجهلهم وضعف عقولهم في عبادتهم هذه الكواكب المخلوقة لحكمة الله عز وجل المسخرة بقدرته وغفلتهم عن خالقها ومسخرها والمتصرف فيها وتركهم عبادته أو إشراكهم معه فيها غيره عز وجل فلما أقام عليهم الحجة: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 78-82] أي {الَّذِينَ آمَنُواْ} يعني صدقوا ووحدوا {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} أي شرك إذ هو الظلم الذي لا يغفره الله عز وجل, وفي الصحيح: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: 13])) فالذين آمنوا الإيمان التام الذي لم تشبه شوائب الشرك الأكبر المنافي لجميعه, ولا الشرك الأصغر المنافي لكماله, ولا معاصي الله المحبطة ثمراته من الطاعات, فأولئك لهم الأمن التام من خزي الدنيا وعذاب الآخرة, والاهتداء التام في الدنيا والآخرة. وبحسب ما ينقص من الإيمان ينقص من الأمن والاهتداء, وباجتناب المعاصي يحصل تمامها. ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 51-67] إلى آخر الآيات, وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 69-82] وقال تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 83-97] إلى آخر الآيات. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 41-45].
    فبين لأبيه أن آلهته لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ولا تقدر على جلب خير ولا دفع شر ولا تغني عنه شيئا. فتبين بذلك أن عبادة مثل هذا جهل وضلال. ثم بين له أن عنده دواء ذلك الداء, والهدى من ذلك الضلال فقال تعالى: {إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَِّبِعُنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيا} وبين أن فعله ذلك عبادة للشيطان, موجب لعذاب الرحمن وولاية الشيطان, عياذا بالله من ذلك. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 15-17] إلى آخر الآيات. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26-28] وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف: 37-40] الآيات وغيرها. وكذلك قص الله تعالى علينا عن جميع الرسل من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 9-12] الآيات. ولو ذهبنا نذكر قصص الرسل ومحاورتهم مع قومهم وعواقب ذلك لطال الفصل. وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته في قومه وصبره على أذاهم وما جرى له معهم فأجلى من الشمس في نحر الظهيرة, والقرآن كله من فاتحته إلى خاتمته في شأن ذلك.

    معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص501





    المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات

    معناه الاعتقاد الجازم بأن الله عز وجل له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو متصف بجميع صفات الكمال، ومنزه عن جميع صفات النقص، متفرد بذلك عن جميع الكائنات.
    وأهل السنة والجماعة: يعرفون ربهم بصفاته الواردة في القرآن والسنة، ويصفون ربهم بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسمائه وآياته، ويثبتون لله ما أثبته لنفسه من غير تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف، وقاعدتهم في كل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].
    وقوله:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
    وأهل السنة والجماعة:
    لا يحددون كيفية صفات الله جل وعلا لأنه تبارك وتعالى لم يخبر عن الكيفية، ولأنه لا أحد أعلم من الله سبحانه بنفسه، قال تعالى:{قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ} [البقرة: 140]
    وقال تعالى:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]
    ولا أحد أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي قال الله تبارك وتعالى في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]

    الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص60


    هو إفراد الله - عز وجل - بما له من الأسماء والصفات.
    وهذا يتضمن شيئين:
    الأول: الإثبات، وذلك بأن نثبت لله - عز وجل - جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
    الثاني: نفى المماثلة، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلاً في أسمائه وصفاته؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11] فدلت هذه الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من المخلوقين؛ فهي وإن اشتركت في أصل المعنى، لكن تختلف في حقيقة الحال، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه؛ فهو معطل، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون، ومن أثبتها مع التشبيه صار مشابهاً للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين.
    وهذا القسم من التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الأمة الإسلامية وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة؛ فمنهم من سلك مسلك التعطيل، فعطل، ونفى الصفات زاعماً أنه منزه لله، وقد ضل، لأن المنزه حقيقةً هو الذي ينفي عنه صفات النقص والعيب، وينزه كلامه من أن يكون تعمية وتضليلاً، فإذا قال: بأن الله ليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا قدرة، لم ينزه الله، بل وصمه بأعيب العيوب، ووصم كلامه بالتعمية والتضليل، لأن الله يكرر ذلك في كلامه ويثبته، سميع بصير، عزيز حكيم، غفور رحيم، فإذا أثبته في كلامه وهو خال منه؛ كان في غاية التعمية والتضليل والقدح في كلام الله - عز وجل ـ، ومنهم من سلك مسلك التمثيل زاعماً بأنه محقق لما وصف الله به نفسه، وقد ضلوا لأنهم لم يقدروا الله حق قدره؛ إذا وصموه بالعيب والنقص، لأنهم جعلوا الكامل من كل وجه كالناقص من كل وجه.
    وإذا كان اقتران تفضيل الكامل على الناقص يحط من قدره، كما قيل:

    ألم تر أن السيف ينقص قدره
    إذا قيل إن السيف أمضى من العصا


    فكيف بتمثيل الكامل بالناقص؟! هذا أعظم ما يكون جنايةً في حق الله - عز وجل ـ، وإن كان المعطوف أعظم جرماً، لكن الكل لم يقدر الله حق قدره.
    فالواجب: أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
    هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم.
    فالتحريف في النصوص، والتعطيل في المعتقد، والتكييف في الصفة، والتمثيل في الصفة، إلا أنه أخص من التكييف؛ فكل ممثل مكيف، ولا عكس، فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه الأمور الأربعة.
    ونعني بالتحريف هنا: التأويل الذي سلكه المحرفون لنصوص الصفات؛ لأنهم سموا أنفسهم أهل التأويل، لأجل تلطيف المسلك الذي سلكوه؛ لأن النفوس تنفرُ من كلمة تحريف، لكن هذا من باب زخرفة القول وتزيينه للناس، حتى لا ينفروا منه.
    وحقيقة تأويلهم: التحريف، وهو صرف اللفظ عن ظاهره؛ فنقول: هذا الصرف إن دل عليه دليل صحيح؛ فليس تأويلاً بالمعنى الذي تريدون، لكنه تفسير.
    وإن لم يدل عليه دليل؛ فهو تحريف، وتغيير للكلم عن مواضعه؛ فهؤلاء الذين ضلوا بهذه الطريقة، فصاروا يثبتون الصفات لكن بتحريف؛ قد ضلوا، وصاروا في طريق معاكس لطريق أهل السنة والجماعة.
    وعليه لا يمكن أن يوصفوا بأهل السنة والجماعة؛ لأن الإضافة تقتضي النسبة، فأهل السنة منتسبون للسنة؛ لأنهم متمسكون بها، وهؤلاء ليسوا متمسكين بالسنة فيما ذهبوا إليه من التحريف.
    وأيضاً الجماعة في الأصل: الاجتماع، وهم غير مجتمعين في آرائهم؛ ففي كتبهم التداخل، والتناقض، والاضطراب، حتى إن بعضهم يضلل بعضاً، ويتناقض هو بنفسه.
    وقد نقل شارح "الطحاوية" عن الغزالي - وهو ممن بلغ ذروة علم الكلام - كلاماً إذا قرأه الإنسان تبين له ما عليه أهل الكلام من الخطأ والزلل والخطل، وأنهم ليسوا على بينة من أمرهم.
    وقال الرازي وهو من رؤسائهم:

    نهاية إقدام العقول عقال
    وأكثر سعي العالمين ضلال

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
    سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

    وأرواحنا في وحشة من جسومنا

    وغاية دنيانا أذى ووبال



    ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]؛ يعني: فأثبت، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]؛ يعني: فأنفي المماثلة، وأنفي الإحاطة به علماً، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
    فتجدهم حيارى مضطربين، ليسوا على يقين من أمرهم، وتجد من هداه الله الصراط المستقيم مطمئناً منشرح الصدر، هادئ البال، يقرأ في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات؛ فيثبت؛ إذ لا أحد أعلم من الله بالله، ولا أصدق خبراً من خبر الله، ولا أصح بياناً من بيان الله؛ كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26]، {يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [النساء: 122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]. فهذه الآيات وغيرها تدل على أن الله يبين للخلق غاية البيان الطريق التي توصلهم إليه، وأعظم ما يحتاج الخلق إلى بيانه ما يتعلق بالله تعالى وبأسماء الله وصفاته حتى يعبدوا الله على بصيرة؛ لأن عبادة من لم نعلم صفاته، أو من ليس له صفة أمر لا يتحقق أبداً؛ فلابد أن تعلم من صفات المعبود ما تجعلك تلتجئ إليه وتعبده حقاً.
    ولا يتجاوز الإنسان حده إلى التكييف أو التمثيل؛ لأنه إذا كان عاجزاً عن تصور نفسه التي بين جنبيه؛ فمن باب أولى أن يكون عاجزاً عن تصور حقائق ما وصف الله به نفسه، ولهذا يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ "لِمَ" و"كيف" فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه من التفكير بالكيفية.وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيراً، وهذه حال السلف رحمهم الله، ولهذا لما جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله قال: يا أبا عبدالله! الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فأطرق برأسه وقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً" .
    أما في عصرنا الحاضر؛ فنجد من يقول إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة، فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدنيا؛ لأن الليل يمشي على جميع الأرض؛ فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى المكان الآخر، وهذا لم يقله الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان هذا يرد على قلب المؤمن؛ لبيّنه الله إما ابتداءً أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو يقيض من يسأله عنه فيجاب، كما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أين كان الله قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فأجابهم.
    فهذا السؤال العظيم يدل على أن كل ما يحتاج إليه الناس فإن الله يبينه بأحد الطرق الثلاثة.
    والجواب عن الإشكال في حديث النزول: أن يقال: ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقياً، فالنزول فيها محقق، وفي غيرها لا يكون نزول قبل ثلث الليل الأخير أو النصف، والله - عز وجل - ليس كمثله شيء، والحديث يدل على أن وقت النزول ينتهي بطلوع الفجر.
    وعلينا أن نستسلم، وأن نقول: سمعنا، وأطعنا، واتبعنا، وآمنا؛ فهذه وظيفتنا لا نتجاوز القرآن والحديث

    القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 1/18


    وسيأتي الكلام عن كل قسم على حدة في موضعه من الموسوعة إن شاء الله تعالى.
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty رد: العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 7:22 am



    المبحث الرابع: مشروعية هذا التقسيم

    سئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا التقسيم ومشروعيته فأجاب بما يلي:
    الحمد لله، فهذا التقسيم مأخوذ من الاستقراء والتأمل لأن العلماء لما استقرؤوا ما جاءت به النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ظهر لهم هذا، وزاد بعضهم نوعا رابعا هو توحيد المتابعة، وهذا كله بالاستقراء
    فلا شك أن من تدبر القرآن الكريم وجد فيه آيات تأمر بإخلاص العبادة لله وحده، وهذا هو توحيد الألوهية، ووجد آيات تدل على أن الله هو الخلاق وأنه الرزاق وأنه مدبر الأمور، وهذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون ولم يدخلهم في الإسلام، كما يجد آيات أخرى تدل على أن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنه لا شبيه له ولا كفو له، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات الذي أنكره المبتدعة من الجهمية والمعتزلة والمشبهة، ومن سلك سبيلهم.
    ويجد آيات تدل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ورفض ما خالف شرعه، وهذا هو توحيد المتابعة، فهذا التقسيم قد علم بالاستقراء وتتبع الآيات ودراسة السنة، ومن ذلك:
    قول الله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 4]
    وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]
    وقوله جل وتعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]
    وقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-57]
    وقوله سبحانه:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]
    وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]
    وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص]
    وقال جل شأنه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].
    وقال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] والآيات الدالة على ما ذكر من التقسيم كثيرة.ومن الأحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه المتفق على صحته: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا )) وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار)) .وقوله لجبريل عليه السلام لما سأله عن الإسلام قال: ((أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة...)) الحديث .وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله)) .وقوله عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل يا رسول الله ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)) والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإله هو المعبود المطاع فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع.
    وقال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
    نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا من حكام ومحكومين للفقه في دينه والثبات عليه والنصح لله ولعباده، والحذر مما يخالف ذلك، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين

    مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لعبد العزيز بن عبد الله بن باز - 6/215






    الفصل الأول: انضباط مصادر أدلة الاعتقاد والاعتماد على ما صح منها

    العقيدة توقيفية؛ فلا تثبت إلا بدليل من الشارع، ولا مسرح فيها للرأي والاجتهاد، ومن ثَمَّ فإن مصادرها مقصورة على ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأنه لا أحد أعلمُ بالله وما يجب له وما ينزه عنه من الله، ولا أحد بعد الله أعلمُ بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان منهج السلف الصالح ومن تبعهم في تلقِّي العقيدة مقصورًا على الكتاب والسنة. فما دلّ عليه الكتاب والسنة في حق الله تعالى آمنوا به، واعتقدوه وعملوا به. وما لم يدل عليه كتاب الله ولا سنة رسوله نفَوْهُ عن الله تعالى ورفضوه؛ ولهذا لم يحصل بينهم اختلاف في الاعتقاد، بل كانت عقيدتهم واحدة، وكانت جماعتهم واحدة؛ لأن الله تكفّل لمن تمسك بكتابه وسنة رسوله باجتماع الكلمة، والصواب في المعتقد واتحاد المنهج، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103]. وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123]. ولذلك سُمُّوا بالفرقة الناجية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بالنجاة حين أخبر بافتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ولما سئل عن هذه الواحدة قال: ((هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) .
    وقد وقع مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم فعندما بنى بعض الناس عقيدتهم على غير الكتاب والسنة، من علم الكلام، وقواعد المنطق الموروثَيْن عن فلاسفة اليونان؛ حصل الانحرافُ والتفرق في الاعتقاد مما نتج عنه اختلافُ الكلمة، وتفرُّقُ الجماعة، وتصدع بناء المجتمع الإسلامي

    عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها من الشرك الأكبر والأصغر والتعطيل والبدع وغير ذلك لصالح بن فوزان الفوزان


    معنا أصلان عظيمان، أحدهما: أن لا نعبد إلا الله. والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة.
    وهذان الأصلان هما تحقيق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2].
    قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وذلك تحقيق قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) .وفي لفظ في الصحيح: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) .وفي الصحيح وغيره أيضاً يقول الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك)) .ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف، كما في الصحيحين ((عن عمر بن الخطاب أنه قبل الحجر الأسود، وقال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك)).
    والله سبحانه أمرنا باتباع الرسول وطاعته، وموالاته ومحبته، وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، وضمن لنا بطاعته ومحبته محبة الله وكرامته. فقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وقال تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13]. وأمثال ذلك في القرآن كثير.
    ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة، ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عليه، ولا يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على الله ما لم يعلم؛ فإن الله تعالى قد حرم ذلك كله

    قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - ص269


    الاقتصار على نصوص الوحيين في الاستدلال، إن من منة الله على أهل الإسلام، أن وحد لهم مصدرهم في التلقي، فلا تذبذب ولا اضطراب في تلقي التصورات والأفكار والعقائد من هنا وهناك بل مصدر تلقي العقائد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن من تطلب الهداية بعيدا عن هذين الأصلين فهو الواقع في شَرَك الضلال والعياذ بالله، يقول ابن أبي العز: (فكل من طلب أن يحكم في شيءٍ من أمر الدين غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمع بين ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما يخالفه فله نصيب من ذلك، بل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كاف كامل، يدخل فيه كل حق، وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه)

    منارات وعلامات في تنزيل أحاديث الفتن على الوقائع والحوادث لعبد الله بن صالح العجيري- ص33

    يقول الإمام ابن قدامة المقدسي: أما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة، ليلبسوا بها على أهل الإسلام، أو الأحاديث الضعيفة - إما لضعف رواتها، أو جهالتهم، أو لعلة فيها، فلا يجوز أن يقال بها، ولا اعتقاد ما فيها، بل وجودها كعدمها، ويقول شيخ الإسلام: (الاستدلال بما لا تُعلم صحته لا يجوز بالاتفاق، فإنه قول بلا علم، وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع)،... قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)) ، بوب عليه الخطيب البغدادي في كتابه (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) 2/134: (تحريم رواية الأخبار الكاذبة ووجوب إسقاط الأحاديث الباطلة)، قال الإمام النووي: (وَأَمَّا فِقْهُ الْحَدِيثِ فَظَاهِرٌ فَفِيهِ تَغْلِيظُ الْكَذِبِ وَالتَّعَرُّض لَهُ وَأَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَذِبُ مَا يَرْوِيهِ فَرَوَاهُ كَانَ كَاذِبًا، وَكَيْف لَا يَكُون كَاذِبًا وَهُوَ مُخْبِرٌ بِمَا لَمْ يَكُنْ)، قال حبيب بن أبي ثابت: (من روى الكذب فهو الكذاب)!، وليحذر الكاذب أن يكون من أهل حديث: ((إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) ، وفي حديث آخر: ((إياكم وكثرة الحديث عني فمن قال علي فليقل حقا أو صدقا ومن تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)) ، قال البغوي: (اعلم أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم أنواع الكذب، بعد كذب الكافر على الله).
    ... عن عبدالله بن الخليل بن إبراهيم العمي قال: سمعت عبدالله بن المبارك يقول لنا: في صحيح الحديث شغل عن سقيمه، وما أكثر السقيم من الأباطيل والموضوعات والمنكرات في هذا الباب، عن عبدالملك الميموني قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير، والمعنى كثرة الكذب والروايات الموضوعة المردودة في هذه الأبواب، وقلة الصحيح فيها مقارنة بالضعيف والموضوع،...، يقول الخطيب معلقا على كلام الإمام أحمد: (وهذا الكلام محمول على وجه، وهو أن المراد به كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة، غير معتمد عليها ولا موثوق بصحتها، لسوء أحوال مصنفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادة القصاص فيها، فأما كتب الملاحم فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة، اتصلت أسانيدها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه مرضية وطرق واضحة جلية...).
    قال أبو زكريا يحيى بن معين: كان أبو اليمان يقول لنا: الحقوا ألواحا، فإنه يجيء ها هنا الآن خليفة بسلمية، فيتزوج ابنة هذا القرشي الذي عندنا، ويفتح باب ها هنا، وتكون فتنة عظيمة!!
    قال أبو زكريا: فما كان من هذا شيء، وكان كله باطلا، قال أبو زكريا: وهذه الأحاديث التي تحدثون بها في الفتن وفي الخلفاء: يكون... كلها كذب وريح، لا يعلم هذا أحد إلا بوحي من السماء.
    والمرجع في بيان صحيح الحديث من ضعيفه إنما هو إلى أهل العلم بالحديث فهم المؤهلون وحدهم لبيان صحيح الخبر من سقيمه وقويه من ضعيفه، قال الخطيب البغدادي في معرض ذكر جملة من فضائل أهل الحديث: (يقبل منهم ما رووا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم المأمون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته، إذا اختلف في حديث، كان إليهم الرجوع، فما حكموا به فهو المقبول المسموع).
    ويقول شيخ الإسلام: (المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث، كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب، ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك، فلكل علم رجال يعرفون به، والعلماء بالحديث أجل هؤلاء قدرا، وأعظمهم صدقا، وأعلاهم منزلة، وأكثرهم دينا، وهم من أعظم الناس صدقا وأمانة وعلما وخبرة فيما يذكرونه من الجرح والتعديل، مثل: مالك وشعبة وسفيان...)

    منارات وعلامات في تنزيل أحاديث الفتن على الوقائع والحوادث لعبد الله بن صالح العجيري - ص67

    وسنفصل القول عن بعض هذه القواعد في قواعد أدلة الأسماء والصفات.
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty رد: العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 7:24 am

    الفصل الثاني: حجية فهم الصحابة والسلف الصالح
    إذا اختلف أهل القبلة وتنازعوا الحق والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، فإن أجدر الفرق بالصواب وأولاها بالحق وأقربها إلى التوفيق من كان في جانب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الكتاب الكريم حمال أوجه في الفهم مختلفة؛ فإن بيان أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم له حجة وأمارة على الفهم الصحيح. أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علما، وأقلها تكلفاً، وأصحها فطرة، وأحسنها سريرة، وأصرحها برهاناً، حضروا التنزيل وعلموا أسبابه، وفهموا مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم وأدركوا مراده، اختارهم الله تعالى على علم على العالمين سوى الأنبياء والمرسلين، "فكان من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين، معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة رضي الله عنهم ."فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، فرضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم البتة" .قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6] " أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" .وقال سفيان رحمه الله في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النحل:59]" هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" .وفي منزلة علمهم واجتهادهم وفتاواهم قال الشافعي رحمه الله:... فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاماً وخاصاً، وعزما وإرشاداً، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله .
    وأفضل علم السلف ما كانوا مقتدين فيه بالصحابة.يقول ابن تيمية رحمه الله: ولا تجد إماماً في العلم والدين، كمالك، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومثل: الفضيل وأبي سليمان، ومعروف الكرخي، وأمثالهم، إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب .ثم إن التابعين وتابعيهم قد حصل لهم من العلم بمراد الله ورسوله ما هو أقرب إلى منزلة الصحابة ممن هم دونهم؛ وذلك لملازمتهم لهم، واشتغالهم بالقرآن حفظا وتفسيراً، وبالحديث رواية ودراية، ورحلاتهم في طلب الصحابة وطلب حديثهم وعلومهم مشهورة معروفة، "ومن المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم، وهو بذلك أقوم كان أحق بالاختصاص به، ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم" .والمسلمون في شأن العقيدة يحتاجون إلى" معرفة ما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بألفاظ الكتاب والسنة، وأن يعرفوا لغة القرآن التي بها نزل، وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين في معاني تلك الألفاظ، فإن الرسول لما خاطبهم بالكتاب والسنة، عرفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلغوا تلك المعاني إلى التابعين أعظم مما بلغوا حروفه، فإن المعاني العامة التي يحتاج إليها عموم المسلمين، مثل معنى التوحيد، ومعنى الواحد والأحد والإيمان والإسلام، ونحو ذلك.. فلابد أن يكون الصحابة يعرفون ذلك، فإن معرفته أصل الدين" .
    فمذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، لا كما يدعيه المخالفون، باختلاف نحلهم ومذاهبهم، فتارة يقول أهل السياسة والملك: إنهم لم يمهدوا قواعد الحكم والسياسة والتدبير لانشغالهم بالعلم والعبادة، وتارة يدعي أهل التصوف أنهم ما حققوا المقامات والأحوال لانشغالهم بالجهاد والقتال وهكذا...والحق أن "كل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم، وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها، وضبط قواعدها، وشد معاقدها، وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء، فالمتأخرون في شأن، والقوم في شأن آخر، وقد جعل الله لكل شيء قدراً .وقال ابن رجب رحمه الله: فمن عرف قدر السلف، عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام، وكثرة الجدل والخصام، والزيادة في البيان على مقدار الحاجة؛ لم يكن عيا، ولا جهلا، ولا قصورا، وإنما كان ورعاً وخشية لله، واشتغالاً عما لا ينفع بما ينفع .وفي تحديد مفهوم السلف، قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، فالسلف اسم يجمع الصحابة فمن بعدهم ممن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وفي الصحيح: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..)) .وهذه الخيرية خيرية علم وإيمان وعمل، ولقد حكى ابن تيمية رحمه الله الإجماع على خيرية القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.. وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة .
    ولقد اعتصم أهل السنة والجماعة بحجية فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين فعصمهم هذا من التفرق والضلال، فقالوا بما قال به السلف، وسكتوا عما سكتوا عنه، ووسعهم ما وسع السلف.أما أهل الضلال والابتداع، فمذهبهم الطعن في الصحابة وتنكب طريق السلف، قال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا رأيت الرجل يذكر أحداً من الصحابة بسوء، فاتهمه على الإسلام" .فالصحابة يكفرهم الرافضة تارة، والخوارج أخرى، والمعتزلة يقول قائلهم وهو عمرو بن عبيد – عليه من الله ما يستحق -: لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان، على شراك نعل ما أجزت شهادتهم! .وصدق أبو حاتم الرازي رحمه الله حين قال: علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر .ورضي الله عن أبي زرعة الرازي حيث قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص266




    الفصل الثالث: الإيمان والتسليم والتعظيم لنصوص الوحيين
    روى مسلم في صحيحه، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد نزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. قال: نعم {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: نعم فحذرهم النبي صلى الله عليه وسلم: أن يتلقوا أمر الله بما تلقاه أهل الكتابين، وأمرهم بالسمع والطاعة، فشكر الله لهم ذلك، حتى رفع الله عنهم الآصار والأغلال التي كانت على من كان قبلنا)) .
    وقال الله في صفته صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. فأخبر الله سبحانه: أن رسوله عليه الصلاة والسلام يضع الآصار والأغلال التي كانت على أهل الكتاب.
    ولما دعا المؤمنون بذلك أخبر الرسول أنه قد استجاب دعاءهم.
    وهذا، وإن كان رفعا للإيجاب والتحريم، فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته قد صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم

    اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/159


    وقال محمد بن نصر المروزي في معنى الإيمان: الإيمان بالله: أن توحده، وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له ولأمره، بإعطاء العزم للأداء لما أمره، مجانباً للاستنكاف، والاستكبار، والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محابه، واجتنبت مساخطه.. إلى أن قال: وإيمانك بمحمد صلى الله عليه وسلم إقرارك به، وتصديقك إياه، واتباعك ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به، أديت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرمـت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات

    تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي - 1/392

    " قال رجل للزهري: يا أبا بكـر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لطم الخدود)) ، ((وليس منا من لم يوقر كبيرنا)) وما أشبه هذا الحديث؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم". " ولما ذكر عبدالله بن المبارك رحمه الله حديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...)) ، فقال فيه قائل: ما هذا! على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا ومما يحسن إيراده في هذا الموضع ما قاله ابن تيمية: ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله.. فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه.

    نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف - ص493


    وحقيقته تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالشريعة باطناً وظاهراً، تصديقاً والتزاماً إجماليين، ينشأ عنهما التصديق بكل ما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم والالتزام بكل ما يرد في الشريعة من طلب الفعل أو الترك.
    ويتحقق الالتزام الباطن بقبول الشريعة، والرضى بها، والتسليم بأحكامها مع تحقيق الالتزام بالعمل الظاهر، الذي هو أيضاً شرط في أصل الدين من حيث الجملة

    ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني - ص60


    ومن أصول عقيدة السلف الصالح؛ أهل السنة والجماعة في منهج التلقي والاستدلال اتباع ما جاء في كتاب الله عز وجل وما صح من سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ظاهراً وباطناً، والتسليم لها، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36]
    وأهل السنة والجماعة: لا يقدمون على كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كلام أحد من الناس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]. ويعلمون بأن التقدم بين يدي الله ورسوله من القول على الله بغير علم، وهو من تزيين الشيطان

    الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص157
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty رد: العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 7:27 am



    الفصل الرابع: جمع النصوص في الباب الواحد، وإعمالها بعد تصحيحها

    إن معقد السلامة من الانحراف عند بيان قضية عقدية وتفصيل أحكامها هو جمع ما ورد بشأنها من نصوص الكتاب والسنة على درجة الاستقصاء، مع تحرير دلالات كل، وتصحيح النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعتماد فهم الصحابة والثقات من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم، فإن بدا ما ظاهره التعارض بين نصوص الوحيين عند المجتهد - لا في الواقع ونفس الأمر، فينبغي الجمع بين هذه الأدلة برد ما غمض منها واشتبه إلى ما ظهر منها واتضح، وتقييد مطلقها بمقيدها، وتخصيص عامها بخاصها، فإن كان التعارض في الواقع ونفس الأمر فبنسخ منسوخها بناسخها - وذلك في الأحكام دون الأخبار فلا يدخلها نسخ - وإن لم يكن إلى علم ذلك من سبيل، فيرده إلى عالمه تبارك وتعالى.
    قال سبحانه: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [آل عمران: 7].و في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: ((نزل الكتاب الأول من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، زاجرا وآمرا، وحلالا وحراما، ومحكما ومتشابها، وأمثالا، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا)) .قال ابن عباس رضي الله عنهما: يؤمن بالمحكم ويدين به، ويؤمن بالمتشابه ولا يدين به، وهو من عند الله كله .وقال الربيع بن خثيم رحمه الله: يا عبد الله، ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه، لا تتكلف فإن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] .وإذا اتضح هذا؛ فإنه لا يجوز أن يؤخذ نص وأن يطرح نظيره في نفس الباب، أو أن تعمل مجموعة من النصوص وتهمل الأخرى؛ لأن هذا مظنة الضلال في الفهم، والغلط في التأويل ، قال الإمام أحمد رحمه الله: الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا .وقال الشاطبي رحمه الله: ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها.. .
    ومما يلتحق بهذا المعنى جمع روايات الحديث الواحد والنظر في أسانيده وألفاظه معاً وقبول ما ثبت، وطرح ما لم يثبت، وكما قيل: والحديث إذا لم تجمع طرقه لم تتبين علله، ثم النظر في الحديث بطوله وفي الروايات مجتمعة.وقد كانت لأهل البدع مواقف خالفوا بها إجماع أهل السنة بسبب مخالفتهم لهذا الأصل العظيم، فكانوا يجترئون من النصوص بطرف، مع إغضاء الطرف عن بقية الأطراف، فصارت كل فرقةٍ منهم من الدين بطرف، وبقي أهل السنة في كل قضية عقدية وسطاً بين طرفين، فهم - مثلاً - وسط في باب الوعيد بين غلاة المرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، وبين الوعيدية من الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد عصاة الموحدين في النار، كما أنهم وسط في باب أسماء الإيمان والدين بين المرجئة القائلين بأن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، وبين الوعيدية القائلين بتكفيره - كما هو عند الخوارج - أو يجعله بمنزلة بين المنزلتين - كما هو عند المعتزلة -، وهم وسط في باب القدر بين القدرية النفاة لمشيئته تعالى وخلقه أفعال العباد، وبين الجبرية النفاة لقدرة العبد واختياره ومشيئته ونسبة فعله إليه حقيقة، والقاعدة الهادية عند اشتباه الأدلة: "أن من رد ما اشتبه إلى الواضح منها، وحكم محكمها على متشابهها عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس" .واتفق لأهل السنة والجماعة "موافقة طريقة السلف من الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث والفقه في الدين، كالإمام أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، وإسحاق، وغيرهم، وهي رد المتشابه إلى المحكم، وأنهم يأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضاً، ويصدق بعضها بعضاً، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره" .
    قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41-42].وقد حكى الباقلاني الإجماع على منع التعارض بين الأدلة الشرعية في نفس الأمر مطلقاً، كما روى الخطيب البغدادي عنه ذلك فقال: يقول الباقلاني: وكل خبرين علم أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهما، فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه، وإن كان ظاهرهما متعارضين؛ لأن معنى التعارض بين الخبرين والقرآن من أمر ونهي وغير ذلك، أن يكون موجب أحدهما منافياً لموجب الآخر، وذلك يبطل التكليف إن كان أمراً ونهياً، وإباحة وحظرا، أو يوجب كون أحدهما صدقاً والآخر كذباً إن كانا خبرين، والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك أجمع، ومعصوم منه باتفاق الأمة، وكل مثبت للنبوة .ولما خالف أهل البدع هذه القاعدة كفر بعضهم بعضا، حيث آمن بعضهم بنصوص وكفروا بأخرى، فقد آمن - مثلاً- الوعيدية: من الخوارج والمعتزلة بنصوص الوعيد ، وكفروا بنصوص الوعد، وقابلهم المرجئة فآمنوا بنصوص الوعد وكفروا بنصوص الوعيد، وأهل السنة والجماعة آمنوا بكل وجمعوا بين النصوص، واعتمدوا على قول الله تعالى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].
    وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48].
    وكذا الجبرية آمنوا بما كفر به القدرية، وكفروا بما آمن به القدرية، والحق الإيمان بجميع النصوص، واعتقاد نفي التعارض بينها، قال تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28-29]، فأثبت مشيئة للإنسان مقيدة بمشيئة الرحمن.
    فالتفّت – بحمد الله – النصوص واجتمعت، وزالت الشبه وارتفعت الحجب وانقلعت."وقد استعمل هذه القاعدة كثير من أئمة العلم والدين في كسر المبتدعة وتفنيد شبهاتهم، كصنيع الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة، وفي كتاب مختلف الحديث، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية، والإمام ابن قتيبة رحمه الله في كتاب مختلف الحديث، والطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار، وغير هؤلاء كثير من أئمة السنة" .

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص259





    الفصل الخامس: اشتمال الوحي على مسائل التوحيد بأدلتها

    إن المصدر الذي تؤخذ منه مسائل أصول الدين هو الوحي، فكل ما يلزم الناس اعتقاده أو العمل به، قد بينه الله تعالى بالوحي الصادق عن طريق كتابه العزيز، أو بالواسطة من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو ما يرجع إليهما من إجماع صحيح، أو عقل صريح دل عليه النقل وأرشد إليه.
    قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
    وقال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].وفي الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: ((.. وأيم الله، لقد تركتكم على البيضاء، ليلها ونهارها سواء، قال أبو الدرداء: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا والله على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء)) ، وفي رواية أخرى: ((لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) .وفي صحيح مسلم لما قيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: ((قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة! فقال: أجل..)) .ودخول مسائل التوحيد وقضاياه في هذا العموم من باب الأولى؛ بل "من المحال أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب" .
    والرسول صلى الله عليه وسلم بين مسائل التوحيد تارة بأدلتها النقلية مباشرة كأحوال البرزخ، ومسائل الآخرة، وتارة يجمع إلى الأدلة النقلية الأدلة العقلية ويرشد إليها، فإما أن تكون أدلة مسائل علم التوحيد أدلة نقلية، أو أدلة نقلية عقلية.وبهذا الأصل المبارك اعتصم أهل السنة والجماعة، فصدروا عن الوحي في تعلم التوحيد في مسائله وأدلته، "ولم ينصبوا مقالة ويجعلوها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسل؛ بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة، هو الأصل يعتقدونه ويعتمدونه" .وردوا عند التنازع في مسألة ما إلى نصوص الوحي، امتثالاً لقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، ومعنى الرد إلى الله سبحانه: الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: الرد إلى سنته بعد وفاته، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين" .
    وفي إعمال هذه القاعدة نظر إلى الوحي بعين الكمال، واستغناء به عن غيره، واعتماد عليه، وتجنب اللوازم الباطلة لمذهب من يعول على العقل أو الذوق دون الشرع، وتحقيق للإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ونجاة من مسالك أهل الأهواء الذين يتقدمون بين يدي الله ورسوله بعلومهم وعقولهم وأذواقهم، وحسم لمادة التقليد الباطلة، مع تحقيق الاجتماع والألفة ونبذ الاختلاف والفرقة.

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص264





    الفصل السادس: الإيمان بالنصوص على ظاهرها وردُ التأويل

    الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف لاسيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها.
    ودليل ذلك: السمع، والعقل.
    أما السمع: فقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192-195] وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]. وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]. وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.
    وقد ذم الله تعالى اليهود على تحريفهم، وبين أنهم بتحريفهم من أبعد الناس عن الإيمان. فقال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]. وقال تعالى:{مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الآية [النساء: 46].
    وأما العقل: فلأن المتكلم بهذه النصوص أعلم بمراده من غيره، وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة.

    القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص42


    الأصل حمل النص على ظاهره: من قواعد أهل السنة المقررة أن الأصل أن يحمل النص على ظاهره، وأن الظاهر مراد، وأن الظاهر ما يتبادر إلى الذهن من المعاني، وأنه لا يخرج عن هذا الظاهر إلا بدليل، فإن عدم الدليل كان الحمل على الظاهر هو المتعين، والحمل على خلافه تحريف، فالنصوص الشرعية نصوص هداية ورحمة لا نصوص إضلال، فلو قدر أن المتكلم أراد من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته من غير قرينة ولا دليل ولا بيان لصادم هذا الفعل مقصود الإرشاد والهداية وأن ترك المخاطب والحالة هذه بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى الهدى...ومن أسباب إخراج النصوص عن ظواهرها عند البعض دعوى معارضتها للمعقول كالشأن في كثير من العقائد الإسلامية، إذ أن من طالع كتب المؤولة وجد عندهم توسعا عجيبا في هذا الباب، وكلما خاضوا بالتأويل في باب جرهم ذلك إلى استسهال التأويل في باب آخر وهكذا حتى آل الأمر بالباطنية مثلا إلى تأويل جملة الشريعة حتى ما يتعلق منها بالأحكام الشرعية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وجعل ذلك كله من قبيل الباطن المخالف للظاهر،... والذي يعنينا هنا أن نؤكد على أن هذه النصوص الشرعية يجب حملها على ظواهرها ولا يصح تأويلها لمجرد تنزيلها على واقع حالي أو لتوهم معارضتها للمعقول، وأن تأويلها والحالة هذه مخرج لها عن قصد الشارع وبالتالي فتنزيلها بعد التأويل تنزيل لها على واقع غير مراد ولا مقصود للشارع.

    منارات وعلامات في تنزيل أحاديث الفتن على الوقائع والحوادث لعبد الله بن صالح العجيري - ص89

    يقصد بظاهر النصوص مدلولها المفهوم بمقتضى الخطاب العربي، لا ما يقابل النص عند متأخري الأصوليين، والظاهر عندهم ما احتمل معنى راجحاً وآخر مرجوحاً، والنص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، "فلفظة الظاهر قد صارت مشتركة، فإن الظاهر في الفطر السليمة، واللسان العربي، والدين القيم، ولسان السلف، غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين" ، فالواجب في نصوص الوحي إجراؤها على ظاهرها المتبادر من كلام المتكلم، واعتقاد أن هذا المعنى هو مراد المتكلم، ونفيه يكون تكذيباً للمتكلم، أو اتهاما له بالعي وعدم القدرة على البيان عما في نفسه، أو اتهاما له بالغبن والتدليس وعدم النصح للمكلف، وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى وحق رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.ومراد المتكلم يعلم إما باستعماله اللفظ الذي يدل بوضعه على المعنى المراد مع تخلية السياق عن أية قرينة تصرفه عن دلالته الظاهرة، أو بأن يصرح بإرادة المعنى المطلوب بيانه، أو أن يحتف بكلامه من القرائن التي تدل على مراده، وعلى هذا فصرف الكلام عن ظاهره المتبادر - من غير دليل يوجبه أو يبين مراد المتكلم - تحكم غير مقبول سببه الجهل أو الهوى، وهذا وإن سماه المتأخرون تأويلاً إلا أنه أقرب إلى التحريف منه إلى التأويل ، ولا يسلم لهذا المتأول تأويله حتى يجيب على أمور أربعة:
    أحدهما: أن يبين احتمال اللفظ لذلك المعنى الذي أورده من جهة اللغة.
    الثاني: أن يبين وجه تعيينه لهذا المعنى أنه المراد.الثالث: أن يقيم الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره؛ لأن الأصل عدمه، قال ابن الوزير رحمه الله: من النقص في الدين رد النصوص والظواهر، ورد حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدل على ثبوت الموجب للتأويل.. .الرابع: أن يبين سلامة الدليل الصارف عن المعارض، إذ دليل إرادة الحقيقة والظاهر قائم، وهو إما قطعي، وإما ظاهر، فإن كان قطعيا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهراً فلابد من الترجيح .ومما يدل على إعمال الظواهر أنه لا يتم بلاغ ولا يكمل إنذار، ولا تقوم الحجة ولا تنقطع المعذرة بكلام لا تفيد ألفاظه اليقين، ولا تدل على مراد المتكلم بها؛ بل على خلاف ذلك، فينتفي عن القرآن – والعياذ بالله – معنى الهداية، وشفاء الصدور، والرحمة، التي وصف الله تعالى بها كتابه الكريم، ومعاني الرأفة والرحمة والحرص على رفع العنت والمشقة عن الأمة، التي وصف الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز، وهو الذي ترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فلا التباس في أمره ونهيه، ولا إلغاز في إرشاده وخبره، باطنه وظاهره سواء، كيف لا، وهو القائل: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم...)) .ودلالته صلى الله عليه وسلم للأمة في شأن اعتقادها أهم أعماله، وأولاها بالإيضاح والإفهام بلسان عربي مبين، والجزم واقع بأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموها على وجهها الذي يفهمه العربي، بغير تكلف ولا تمحل في صرف ظواهرها، ومن كان باللسان العربي أعرف ففهمه لنصوص الوحي أرسخ، وقد قال عمر رضي الله عنه: (يا أيها الناس، عليكم بديوان شعركم في الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم) .وقال ابن تيمية رحمه الله: لم يكن في الصحابة من تأويل شيئا من نصوصه – أي نصوص الوحي – على خلاف ما دل عليه، لا فيما أخبر به الله عن أسمائه وصفاته، ولا فيما أخبر به عما بعد الموت... .وفي إنكار التأويل الكلامي ومناهج الفلاسفة ومن تأثر بهم من المتكلمين، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل – ولو كان مستكرهاً – ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم، وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف .ويقول ابن تيمية رحمه الله مبيناً خطورة التأويل: فأصل خراب الدين والدنيا، إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل، وليس هذا مختصاً بدين الإسلام فقط؛ بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد .
    ففي لزوم الإيمان بالنصوص على ظاهرها ودفع التأويل المتعسف بغير دليل موافقة لنصوص الكتاب والسنة لفظا ومعنى، مع بعد عن التكلف في الدين، والقول على الله بغير علم، والافتراء على رسوله الأمين، فضلاً عن ما في ذلك من مصلحة سد باب الخروج على العقيدة ببدعة محدثة، وسد باب الخروج على الشريعة، والاجتراء على الحرمات، والتهاون بالطاعات والوقوع في المنكرات، بصرف ألفاظ الوعد والوعيد عن حقيقتها وظاهرها، ودعوى أن كل ذلك غير مراد."وهذه القاعدة تفيد بطلان مذهب المفوضة في الصفات، الذين يفوضون معاني النصوص إلى الله، مدعين أن هذا هو مذهب السلف، وقد علم براءة مذهب السلف من هذا المذهب بتواتر الأخبار عنهم بإثبات معاني هذه النصوص على الإجمال والتفصيل، وإنما فوضوا العلم بكيفيتها لا العلم بمعانيها" .قال ابن تيمية رحمه الله: إن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها، ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه .
    بل كان قول أهل العلم: من الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم.ومما يشهد للصحابة في فهمهم مراد الله ومراد نبيه صلى الله عليه وسلم، والأخذ بظواهر النصوص، وتفسيرها مما يظهر منها: قول ابن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه .وقال مسروق رحمه الله: كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحثنا فيها ويفسرها عامة النهار ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: نعم ترجمان القرآن ابن عباس .وقال مجاهد رحمه الله: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها .
    فلم يتوقف الصحابة عن تفسير النصوص والأخذ بظواهرها؛ ويستثنى من ذلك النصوص الخاصة بصفات الله تعالى، فقد أخذوا بظواهرها فأثبتوها دون تفسير أو تكييف لمعناها.قال الذهبي: قال سفيان وغيره: قراءتها – أي آيات الصفات – تفسيرها، يعني أنها بينة واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضايق التأويل والتحريف .

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص271
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty رد: العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 7:44 am

    الفصل السابع: درء التعارض بين صحيح النقل وصريح العقل

    القرآن والسنة لا تعارض بينهما ولا تعارض في ذاتهما، إنما يقع التعارض حسب فهم المخاطب

    القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – 2/93


    وهذه مسألة ينبغي أن يفطن لها الإنسان فيما يأتي من النصوص الشرعية مما ظاهره التعارض، فيحمل كل واحد منها علي الحال المناسبة ليحصل التآلف بين النصوص الشرعية.

    القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين – 2/252


    إذا صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنا نضرب بما عارضها عرض الحائط، لكن إذا قدر أننا رأينا الشيء بأعيننا، وأدركنا بأبصارنا وحواسنا، ففي هذه الحال يجب أن نسلك أحد أمرين:
    الأول: محاولة الجمع بين النص والواقع إن أمكن الجمع بينهما بأي طريق من طرق الجمع.
    الثاني: إن لم يمكن الجمع تبين ضعف الحديث، لأنه لا يمكن للأحاديث الصحيحة أن تخالف شيئاً حسياً واقعاً أبداً، كما قال شيخ الإسلام في كتابه " العقل والنقل ": " لا يمكن للدليلين القطعيين أن يتعارضا أبداً، لأن تعارضها يقتضي إما رفع النقيضين أو جمع النقيضين، وهذا مستحيل، فإن ظن التعارض بينهما، فإما أن لا يكون الخطأ من الفهم، وإما إن يكون أحدهما ظنياً والآخر قطعياً ".
    فإذا جاء الأمر الواقع الذي لا إشكال فيه مخالفاً لظاهر شيء من الكتاب أو السنة، فإن ظاهر الكتاب يؤول حتى يكون مطابقاً للواقع

    القول المفيد على كتاب التوحيد لمحمد بن صالح بن عثيمين - 3/360


    وكل شيء في كتاب الله تعالى تظن فيه التعارض فيما يبدو لك فأعد النظر فيه مرة بعد أخرى حتى يتبين لك. قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]

    القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين – ص62


    ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدما على ما جاءت به الرسل وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي فمتي علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزما قاطعا أنه حق وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي ولا عقلي ولا سمعي وأن كل ما ظن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة وشبه من جنس شبه السوفسطائية، وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح كان هذا العقل شاهدا بأن كل ما خالف خبر الرسول فهو باطل فيكون هذا العقل والسمع جميعا شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع

    درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - 1/111


    والعقل الصريح عندهم - أي: عند أهل السنة - يوافق النقل الصحيح، وعند الإشكال يقدمون النقل ولا إشكال؛ لأن النقل لا يأتي بما يستحيل على العقل أن يتقبله، وإنما يأتي بما تحار فيه العقول، والعقل يصدق النقل في كل ما أخبر به ولا العكس.
    ولا يقللون من شأن العقل؛ فهو مناط التكليف عندهم، ولكن يقولون: إن العقل لا يتقدم على الشرع - وإلا لاستغنى الخلق عن الرسل - ولكن يعمل داخل دائرته، ولهذا سموا أهل السنة لاستمساكهم واتباعهم وتسليمهم المطلق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]

    الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص157


    مما ينبغي اعتقاده أن نصوص الكتاب والسنة الصحيحة والصريحة في دلالتها، لا يعارضها شيء من المعقولات الصريحة، ذلك أن العقل شاهد بصحة الشريعة إجمالا وتفصيلا، فأما الإجمال، فمن جهة شهادة العقل بصحة النبوة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فيلزم من ذلك تصديقه في كل ما يخبر به من الكتاب والحكمة.
    وأما التفصيل، فمسائل الشريعة ليس فيها ما يرده العقل؛ بل كل ما أدركه العقل من مسائلها فهو يشهد له بالصحة تصديقا وتعضيدا، وما قصر العقل عن إدراكه من مسائلها، فهذا لعظم الشريعة، وتفوقها، ومع ذلك فليس في العقل ما يمنع وقوع تلك المسائل التي عجز العقل عن إدراكها، فالشريعة قد تأتي بما يحير العقول لا بما تحيله العقول.
    فإن وجد ما يوهم التعارض بين العقل والنقل، فإما أن يكون النقل غير صحيح أو يكون صحيحاً ليس فيه دلالة صحيحة على المدعى، وإما أن يكون العقل فاسداً بفساد مقدماته.
    فمن احتج - مثلا- في إنكار الصفات الإلهية بأن لازم ذلك إثبات آلهة مع الله، فقد احتج بعقل غير صحيح؛ بل لا يجوز تسمية ذلك عقلاً أصلاً؛ إذ لا يجوز في العقل وجود موجود مجرد عن الصفات؛ بل هو من أعظم الممتنعات العقلية؛ لأنه يستلزم رفع النقيضين، حيث يقال: هو موجود ولا موجود، ولا يقال هذا في حق المخلوق، فلا يستلزم إثبات المخلوق متصفا بصفات السمع والبصر والكلام والحياة أن يتعدد المخلوق، بحيث تكون كل صفة منها إنسانا قائما بنفسه، وهذا معلوم البطلان في حق المخلوق، وبطلانه في حق الخالق أظهر وأولى فبهذا عقل فاسد لا يقاوم النقل الصحيح الصريح من آيات الصفات وأحاديثها.وقد يكون النقل مكذوبا والعقل صحيحاً، كما في حديث يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل يا رسول الله: مم ربنا؟ قال: ((من ماء مرور، لا من أرض، ولا من سماء، خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق.. )) .
    ففي هذا الكتاب وأمثاله لا يقال إنه يعارض دليل العقل، فلا يصلح أن يكون دليلا فضلا عن أن ينسب إلى الشرع ليعارض به العقل، علاوة على أن الأدلة الشرعية تنقضه وتبطله.وقد يكون النقل صحيحاً، إلا أنه لا يدل على المعنى المدعى، فيتوهم التعارض بين المنقول والمعقول، كما في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني.. الحديث)) .
    فمن فهم من الحديث أن الله تعالى يمرض أو يجوع ويعطش لم يفهم معنى الحديث لأن الحديث فسره المتكلم به، وبين المراد منه، وهو أن العبد هو الذي جاع وعطش ومرض، وأن الله تعالى منزه عن ذلك.
    "والمقصود هو بيان أنه إذا ظهر تعارض بين الدليلين النقلي والعقلي، فلابد من أحد ثلاثة احتمالات:
    الأول: أن يكون أحد الدليلين قطعياً والآخر ظنياً، فيجب تقديم القطعي نقلياً كان أم عقلياً، وإن كان ظنيين فالواجب تقديم الراجح، عقلياً كان أم نقلياً.
    الثاني: أن يكون أحد الدليلين فاسدا، فالواجب تقديم الدليل الصحيح على الفاسد سواء أكان نقلياً أم عقلياً.
    الثالث: أن يكون أحد الدليلين صريحاً والآخر ليس بذاك، فهنا يجب تقديم الدلالة الصريحة على الدلالة الخفية، لكن قد يخفى من وجوه الدلالات عند بعض الناس ما قد يكون بينا وواضحاً عند البعض الآخر، فلا تعارض في نفس الأمر عندئذٍ.أما أن يكون الدليلان قطعيين - سندا ومتنا- ثم يتعارضان، فهذا لا يكون أبداً، لا بين نقليين، ولا بين عقليين، ولا بين نقلي وعقلي" .وخلاصة اعتقاد أهل السنة في هذا الباب "أن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه" .
    وقد أعمل الصحابة رضي الله عنهم هذا الأصل، وتلقاه عنهم التابعون، وتواترت عبارات أهل العلم بهذا المعنى.قال ابن تيمية رحمه الله: فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم .وقال الإمام الشافعي رحمه الله: كل شيء خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط، ولا يقوم معه رأي ولا قياس، فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد معه أمر ولا نهي غير ما أمر هو به .وقال الإمام مالك رحمه الله: أو كلما جاء رجل أجدل من الآخر، رد ما أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم .
    ومن ثمرات الالتزام بهذه القاعدة، إثبات عصمة الشرع الحكيم إذ ليس فيه ما يخالف العقل الصحيح، وسد باب التأويل والتفويض، واستقامة الحياة على الوجه الأتم الأكمل عند نفي التعارض بين وحي الله تعالى وخلقه، فتنعم البشرية بهدي الله وشرعه وتنتفع بما أنعم على خلقه.

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري – ص276
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty رد: العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 7:59 am

    الفصل الثامن: السكوت عما سكت عنه الله ورسوله وأمسك عنه السلف

    كل مسألة من المسائل الشرعية - ولاسيما مسائل الاعتقاد- لا يحكم فيها، نفياً أو إثباتاً إلا بدليل، فما ورد الدليل بإثباته أثبت، وما ورد بنفيه نفي، وما لم يرد بإثباته ولا بنفيه دليل توقفنا، ولم نحكم فيه بشيء؛ لا إثباتاً ولا نفياً، ولا يعني هذا أن المسألة خلية عن الدليل، بل قد يكون عليها دليل، لكن لا نعلمه، فالواجب التوقف: إما مطلقا أو لحين وجدان الدليل.قال شيخ الإسلام رحمه الله: ما لم يرد به الخبر إن علم انتفاؤه نفيناه وإلا سكتنا عنه فلا نثبت إلا بعلم ولا ننفي إلا بعلم... فالأقسام ثلاثة: ما علم ثبوته أثبت، وما علم انتفاؤه نفي، وما لم يعلم نفيه ولا إثباته سكت عنه، هذا هو الواجب، والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته .
    وقد وردت كثير من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين وأئمة السلف وأهل السنة بالأمر بالكف عما لم يرد في الشرع، والسكوت عما سكت عنه الله ورسوله وأمسك عنه السلف، وترك الخوض فيما لا علم للإنسان به من دليل أو أثر.قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] قال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله .وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)) .وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)) .وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من علم فليقل، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؛ فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]) .وترجم الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الاعتصام من "صحيحه": باب: ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]، وباب: ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس {وَلاَ تَقْفُ} لا تقل {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] .وسأل رجل أبا حنيفة رحمه الله: ما تقول فيما أحدثه الناس في الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريق السلف، وإياك وكل محدثةٍ فإنها بدعة .وروى اللالكائي بسنده عن أبي إسحاق قال: سألت الأوزاعي فقال: "اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم" .وقال إبراهيم النخعي: بلغني عنهم – يعني الصحابة – أنهم لم يجاوزوا بالوضوء ظفرا ما جاوزته به، وكفى على قوم وزرا أن تخالف أعمالهم أعمال أصحاب نبيهم صلى الله عليه وسلم .وقال الشعبي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول". وقال أيضا: "ما حدثوك به عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذه وما حدثوك به عن رأيهم فانبذه في الحش .وقال ابن عبد الهادي رحمه الله: ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة، لم يكن على عهد السلف، ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر .وقال ابن رجب رحمه الله: فالعلم النافع من هذه العلوم كلها: ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقاق، والمعارف، وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولا، ثم الاجتهاد على الوقوف على معانيه وتفهمه ثانيا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل

    علم التوحيد عند أهل السنة والجماعة لمحمد يسري - ص286





    الفصل الأول: موقف أهل السنة من التحريف والتأويل


    نُمِرُّهَا صَرِيحَةً كَمَا أَتَتْ
    مَعَ اعْتِقَادِنَا لِمَا لَهُ اقْتَضَتْ

    مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلِ
    وغَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلِ

    بَلْ قَوْلُنَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْهُدَى

    طُوبَى لِمَنْ بِهَدْيِهِمْ قَدِ اهْتَدَى


    (من غير تحريف) لمعانيها كما فعله الزنادقة أيضا كتأويلهم {نفسه} تعالى بالغير وأن إضافتها إليه كإضافة بيت الله وناقة الله فعلى هذا التأويل يكون قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] أي غيره وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] أي على غيره ويكون قوله عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] أي ولا أعلم ما في غيرك ويكون قوله لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] أراد واصطنعتك لغيري وهذا لا يقوله عاقل بل ولا يتوهمه ولا يقوله إلا كافر وكتأويلهم (وجهه) تعالى بالنفس مع جحودهم لها كما تقدم فانظر لتناقضهم البين وهذا يكفي حكايته عن رده أما من أثبت النفس وأول الوجه بذلك فيقال له إن الله تعالى قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] فذكر الوجه مرفوعا على الفاعلية ولفظ الرب مجرورا بالإضافة وذكر ذو مرفوعا بالتبعية نعتا لوجه فلو كان الوجه هو الذات لكانت القراءة (ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام ) بالياء لا بالواو كما قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] فخفضه لما كانت صفة للرب فلما كانت القراءة في الآية الأولى بالرفع إجماعا تبين أن الوجه صفة للذات ليس هو الذات ولما رأى آخرون منهم فساد تأويلهم بالذات أو الغير لجأوا إلى طاغوت المجاز فعدلوا إلى أن تأويله به أولى وأنه كما يقال: (وجه الكلام) و (وجه الدار) و (وجه الثوب) ونحو ذلك فتكلفوا الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم كل التكلف ثم نكسوا على رءوسهم فوقعوا فيما فروا منه فيقال لهم: أليس الثوب والدار والكلام مخلوقات كلها وقد شبهتم وجه الله تعالى بذلك فأين الفكاك والخلاص ولات حين مناص {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] وكما أولوا اليد بالنعمة واستشهدوا بقول العرب: (لك يد عندي) أي نعمة فعلى هذا التأويل يكون قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة: 64] يعني نعمتاه فلم يثبتوا لله إلا نعمتين والله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] ويكون قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] أراد الله بنعمته ويكون قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] أراد مطويات بنعمته فهل يقول هذا عاقل وقال آخرون منهم (بقوته) استشهادا بقوله تعالى: {وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 147] أي بقوةٍ فيقال لهم: أليس كل مخلوق خلقه الله بقوة فعلى هذا ما معنى قوله عز وجل {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وأي فضل لآدم على إبليس إذ كل منهما خلقه الله بقوته وما معنى قوله تعالى للملائكة: ((لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان)) أفلم يخلق الملائكة بقوته وأي فضل لآدم عليهم إن لم يكن خلقه بيده التي هي صفته نبئوني بعلم إن كنتم صادقين وكما تأولوا الاستواء بالاستيلاء ببيت مجهول مروي على خلاف وجهه وهو ما ينسب إلى الأخطل النصراني:

    قد استوى بشر على العراق
    من غير سيف ودم مهراق

    فعدلوا عن أكثر من ألف دليل من التنزيل إلى بيت ينسب إلى بعض العلوج ليس على دين الإسلام ولا على لغة العرب فطفق أهل الأهواء يفسرون به كلام الله عز وجل ويحملونه عليه مع إنكار عامة أهل اللغة لذلك وأن الاستواء لا يكون بمعنى الاستيلاء بوجه من الوجوه البتة وقد سئل الأعرابي وهو إمام أهل اللغة في زمانه فقال: العرب لا تقول للرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل: استولى، والله سبحانه وتعالى لا مغالب له. اهـ. وقد فسر السلف الاستواء بعدة معان بحسب أداته المقترنة به وبحسب تجريده عن الأداة ولم يذكر أحد منهم أنه يأتي بمعنى الاستيلاء حتى انتحل ذلك أهل الأهواء والبدع لا باشتقاق صغير ولا كبير بل باستنباط مختلق وافق الهوى المتبع وقد بسط القول في رد ذلك ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في كتابه (الصواعق) وبيَّن بطلانه من نيف وأربعين وجهاً فليراجع, وكما أولوا أحاديث النزول إلى السماء الدنيا بأنه ينزل أمره فيقال لهم: أليس أمر الله تعالى نازلا في كل وقت وحين؟ فماذا يخص السحر بذلك؟ وقال آخرون ينزل ملك بأمره فنسب النزول إليه تعالى مجازا فيقال لهم فهل يجوز على الله تعالى أن يرسل من يدعي ربوبيته وهل يمكن للملك أن يقول: ((لا أسأل عن عبادي غيري من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له)). وهل قصرت عبارة النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يقول ينزل ملك بأمر الله فيقول إن الله تعالى يقول لكم كذا أو أمرني أن أقول لكم كذا حتى جاء بلفظ مجمل يوهم بزعمكم ربوبية الملك لقد ظننتم بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم ظن السوء وكنتم قوما بورا وكما أولوا المجيء لفصل القضاء بالمجاز فقالوا: يجيء أمره واستدلوا بقوله تعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: 33] فقالوا في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ} [البقرة:210] فقالوا: هو من مجاز الحذف والتقدير يأتي أمر الله فيقال لهم أليس قد اتضح ذلك غاية الاتضاح أن مجيء ربنا عز وجل غير مجيء ملائكته حقيقة وقد فصل تعالى أوانه وقسمه ونوعه تنويعا يمتنع معه الحمل على المجاز فذكر تعالى في آية البقرة مجيئه ومجيء الملائكة وكذا في آية الأنعام إتيانه وإتيان الملائكة وإتيان بعض آياته التي هن من أمره ثم يقال ما الذي يخص إتيان أمره بيوم القيامة أليس أمره آتيا في كل وقت متنزلا بين السماء والأرض بتدبير أمور خلقه في كل نفس ولحظة {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] وتأولوا النظر إلى الله عز وجل في الدار الآخرة بالانتظار قالوا إنه كقوله: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13] فيقال لهم أليس إذا كان بمعنى الانتظار تعدى بنفسه لا يحتاج إلى أداة كما في قوله {انْظُرُونَا} ألم يضف الله تعالى النظر إلى الوجوه التي فيها الإبصار ويعده بإلى التي تفيد المعاينة بالبصر عند جميع أهل اللغة {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ} [البقرة: 140] أو لم يفسره النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤية الجلية عيانا بالأبصار في أكثر من خمسين حديثا صحيحا حتى شبه تلك الرؤية برؤيتنا الشمس صحوا ليس دونها سحاب تشبيها للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي ولم يزل الصحابة مؤمنين بذلك ويحدثون به من بعدهم من التابعين وينقله التابعون إلى من بعدهم وهلم جرا فنحن أخذنا ديننا عن حملة الشريعة عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأنتم عمن أخذتم ومن شبهاتهم في نفي الرؤية استدلالهم بقوله عز وجل: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 113] وهذه الآية فيها عن الصحابة تفسيران: أولهما: لا يرى في الدنيا وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها وبذلك نفت أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج. ثانيهما: تفسير ابن عباس رضي الله عنهما {لاَّ تُدْرِكُهُ} أي لا تحيط به فالنفي للإحاطة لا للرؤية وهذا عام في الدنيا والآخرة ولم ينقل عن أحد الصحابة من طريق صحيح ولا ضعيف أنه أراد بذلك نفي الرؤية في الآخرة فهذا تفسير الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويل الكتاب هل بينهم من أحد فسر الآية بما افتريتموه ومن إفكهم ادعاؤهم معنى التأبيد في نفي {لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143] حتى كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا مختلقا لفظه: ((لن تراني في الدنيا ولا في الآخرة)) وهو موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أئمة الحديث والسنة. ولم يقل أحد من أئمة اللغة العربية إن نفي لن للتأبيد مطلقا إلا الزمخشري من المتأخرين قال ذلك ترويجا لمذهبه في الاعتزال وجحود صفات الخالق جل وعلا وقد رده عليه أئمة التفسير كابن كثير وغيره.
    وردّه ابن مالك في الكافية حيث قال:

    ومن يرى النفي بلن مؤبدا
    فقوله اردد وسواه فاعضدا


    والقائل لموسى {لَن تَرَانِي} هو المتجلي للجبل حتى اندك وهو الذي وعد المؤمنين {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وهو الذي قال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فاتضح بذلك قوله لموسى عليه الصلاة والسلام {لَن تَرَانِي} إنما أراد عدم استطاعته رؤية الله تعالى في هذه الدار لضعف القوى البشرية فيها عن ذلك كما قرر تعالى ذلك بقوله جل جلاله {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] الآية فإذا لم يثبت الجبل لتجلي الله تعالى فكيف يثبت موسى لذلك وهو بشر خلق من ضعف وأما في الآخرة فيخلق الله تعالى في أوليائه قوة مستعدة للنظر إلى وجهه عز وجل وبهذا تجتمع نصوص الكتاب والسنة وتأتلف كما هو مذهب أهل السنة والجماعة وأما من اتبع هواه بغير هدى من الله ونصب الخصام أو الجدال والمعارضة بين نصوص الكتاب والسنة واتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله وضرب كتاب الله بعضه ببعض وآمن ببعض وكفر ببعض وشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين وأضله الله على علم وختم على سمعه وبصره وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أعاذنا الله وجميع المؤمنين من ذلك ولا يتأتى لأحد من أهل التأويل مراده ولا يستقيم له تأويله إلا بدفع النصوص بعضها ببعض لا محالة ولا بد فإن كتاب الله تعالى يصدق بعضه بعضا لا يكذبه كما هو مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه وكذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم تبين الكتاب وتوضحه وتفسره وتدل عليه وترشد إليه ولا يشك في ذلك ولا يرتاب فيه إلا من اتخذ إلهه هواه وأدلى بشبهاته لغرض شهواته {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} [البروج: 19-20] وهذا دأبهم في جميع نصوص الأسماء والصفات وإنما ذكرنا هذه الجملة مثالا وتنبيها على ما وراء ذلك فمن عوفي فليحمد الله فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله

    معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص460


    أهل السنة والجماعة إيمانهم بما وصف الله به نفسه خال من التحريف، يعني: تغيير اللفظ أو المعنى.
    وتغيير المعنى يسميه القائلون به تأويلاً ويسمون أنفسهم بأهل التأويل، لأجل أن يصبغوا هذا الكلام صبغة القبول، لأن التأويل لا تنفر منه النفوس ولا تكرهه، لكن ما ذهبوا إليه في الحقيقة تحريف، لأنه ليس عليه دليل صحيح، إلا أنهم لا يستطيعون أن يقولوا: تحريفاً! ولو قالوا: هذا تحريف، لأعلنوا على أنفسهم برفض كلامهم.
    ولهذا عبر المؤلف - يعني ابن تيمية - رحمه الله بالتحريف دون التأويل مع أن كثيراً ممن يتكلمون في هذا الباب يعبرون بنفي التأويل، يقولون: من غير تأويل، لكن ما عبر به المؤلف أولى لوجوه أربعة:
    الوجه الأول: أنه اللفظ الذي جاء به القرآن، فإن الله تعالى قال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، والتعبير الذي عبر به القرآن أولى من غيره، لأنه أدل على المعنى.
    الوجه الثاني: أنه أدل على الحال، وأقرب إلى العدل، فالمؤول بغير دليل ليس من العدل أن تسميه مؤولاً، بل العدل أن نصفه بما يستحق وهو أن يكون محرفاً.
    الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، يجب البعد عنه والتنفير منه، واستعمال التحريف فيه أبلغ تنفيراً من التأويل، لأن التحريف لا يقبله أحد، لكن التأويل لين، تقبله النفس، وتستفصل عن معناه، أما التحريف، بمجرد ما نقول: هذا تحريف. ينفر الإنسان منه، إذا كان كذلك، فإن استعمال التحريف فيمن خالفوا طريق السلف أليق من استعمال التأويل.الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذموماً كله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)) ، وقال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، فامتدحهم بأنهم يعلمون التأويل.
    والتأويل ليس كله مذموما، لأن التأويل له معان متعددة، يكون بمعنى التفسير ويكون بمعنى العاقبة والمال، ويكون بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره.
    (أ) يكون بمعنى التفسير، كثير من المفسرين عندما يفسرون الآية، يقولون: تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ثم يذكرون المعنى وسمي التفسير تأويلاً، لأننا أوّلنا الكلام، أي: جعلناه يؤول إلى معناه المراد به.
    (ب) تأويل بمعنى: عاقبة الشيء، وهذا إن ورد في طلب، فتأويله فعله إن كان أمراً وتركه إن كان نهياً، وإن ورد في خبر، فتأويله وقوعه.
    مثاله في الخبر قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]، فالمعنى: ما ينتظر هؤلاء إلا عاقبة ومآل ما أخبروا به، يوم يأتي ذلك المخبر به، يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق.
    ومنه قول يوسف لما خرَّ له أبواه وإخوته سجداً قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} [يوسف: 100]: هذا وقوع رؤياي، لأنه قال ذلك بعد أن سجدوا له.ومثاله في الطلب قول عائشة رضي الله عنها: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده بعد أن أنزل عليه قوله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)) . أي: يعمل به.
    (جـ) المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن دل عليه دليل، فهو محمود النوع ويكون من القسم الأول، وهو التفسير، وإن لم يدل عليه دليل، فهو مذموم، ويكون من باب التحريف، وليس من باب التأويل.
    وهذا الثاني هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل.
    مثاله قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه، فإذا قال قائل: معنى (اسْتَوَى): استولى على العرش، فنقول: هذا تأويل عندك لأنك صرفت اللفظ عن ظاهره، لكن هذا تحريف في الحقيقة، لأنه ما دل عليه دليل، بل الدليل على خلافه، كما سيأتي إن شاء الله.
    فأما قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، فمعنى: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ}، أي: سيأتي أمر الله، فهذا مخالف لظاهر اللفظ لكن عليه دليل وهو قوله: {فَلا تَسْتَعْجِلُوه}.
    وكذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، أي: إذا أردت أن تقرأ، وليس المعنى: إذا أكملت القراءة، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأننا علمنا من السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرد أن يقرأ، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، لا إذا أكمل القراءة، فالتأويل صحيح.وكذلك قول أنس بن مالك: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء، قال: أعوذ بالله من الخبث والخبائث)) ، فمعنى (إذا دخل): إذاً أراد أن يدخل، لأن ذكر الله لا يليق داخل هذا المكان، فلهذا حملنا قوله: (إذا دخل) على إذا أراد أن يدخل: هذا التأويل الذي دل عليه صحيح، ولا يعدو أن يكون تفسيراً.
    ولذلك قلنا: إن التعبير بالتحريف عن التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح أولى، لأنه الذي جاء به القرآن، ولأنه ألصق بطريق المحرف، ولأنه أشد تنفيراً عن هذه الطريقة المخالفة لطريق السلف، ولأن التحريف كله مذموم، بخلاف التأويل، فإن منه ما يكون مذموماً ومحموداً، فيكون التعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل من أربعة أوجه.

    شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/87


    من المعلوم أن الأشاعرة من أهل التأويل فكيف يكون مذهبهم باطلاً وقد قيل: إنهم يمثلون اليوم خمسة وتسعين بالمائة من المسلمين؟!
    وكيف يكون باطلاً وقدوتهم في ذلك أبو الحسن الأشعري؟
    وكيف يكون باطلاً وفيهم فلان وفلان من العلماء المعروفين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؟
    قلنا - أي: ابن عثيمين رحمه الله-: الجواب عن السؤال الأول: أننا لا نسلم أن تكون نسبة الأشاعرة بهذا القدر بالنسبة لسائر فرق المسلمين، فإن هذه دعوى تحتاج إلى إثبات عن طريق الإحصاء الدقيق.
    ثم لو سلمنا أنهم بهذا القدر أو أكثر فإنه لا يقتضي عصمتهم من الخطأ؛ لأن العصمة في إجماع المسلمين لا في الأكثر.
    ثم نقول: إن إجماع المسلمين قديماً ثابت على خلاف ما كان عليه أهل التأويل، فإن السلف الصالح من صدر هذه الأمة (وهم الصحابة) الذين هم خير القرون والتابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى من بعدهم كانوا مجمعين على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من الأسماء والصفات، وإجراء النصوص على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
    وهم خير القرون بنص الرسول صلى الله عليه وسلم، وإجماعهم حجة ملزمة؛ لأنه مقتضى الكتاب والسنة، وقد سبق نقل الإجماع عنهم في القاعدة الرابعة من قواعد نصوص الصفات.
    والجواب عن السؤال الثاني: أن أبا الحسن الأشعري وغيره من أئمة المسلمين لا يدعون لأنفسهم العصمة من الخطأ، بل لم ينالوا الإمامة في الدين إلا حين عرفوا قدر أنفسهم ونزلوها منزلتها وكان في قلوبهم من تعظيم الكتاب والسنة ما استحقوا به أن يكونوا أئمة، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. وقال عن إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 120-121].
    ثم إن هؤلاء المتأخرين الذين ينتسبون إليه لم يقتدوا به الإقتداء الذي ينبغي أن يكونوا عليه، وذلك أن أبا الحسن كان له مراحل ثلاث في العقيدة:
    المرحلة الأولى: مرحلة الاعتزال: اعتنق مذهب المعتزلة أربعين عاماً يقرره ويناظر عليه، ثم رجع عنه وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم.المرحلة الثانية: مرحلة بين الاعتزال المحض والسنة المحضة سلك فيها طريق أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب. قال شيخ الإسلام ابن تيميه: والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية أخذوا من هؤلاء كلاماً صحيحاً ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة. اهـ.
    المرحلة الثالثة: مرحلة اعتناق مذهب أهل السنة والحديث مقتدياً بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما قرره في كتابه: (الإبانة عن أصول الديانة) وهو من آخر كتبه أو آخرها.
    قال في مقدمته: جاءنا - يعني: النبي صلى الله عليه وسلم - بكتابٍ عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، جمع فيه علم الأولين، وأكمل به الفرائض والدين، فهو صراط الله المستقيم، وحبله المتين، من تمسك به نجا، ومن خالفه ضل وغوى وفي الجهل تردى، وحث الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]. إلى أن قال: فأمرهم بطاعة رسوله كما أمرهم بطاعته، ودعاهم إلى التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أمرهم بالعمل بكتابه، فنبذ كثير ممن غلبت شقوته، واستحوذ عليهم الشيطان، سنن نبي الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، وعدلوا إلى أسلاف لهم قلدوهم بدينهم ودانوا بديانتهم، وأبطلوا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضوها وأنكروها وجحدوها افتراءً منهم على الله {قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140].
    ثم ذكر رحمه الله أصولاً من أصول المبتدعة، وأشار إلى بطلانها ثم قال: فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والجهمية، والحرورية، والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟
    قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نضَّر الله وجهه ورفع درجته، وأجزل مثوبته - قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل ثم أثنى عليه بما أظهر الله على يده من الحق وذكر ثبوت الصفات، ومسائل في القدر، والشفاعة، وبعض السمعيات، وقرر ذلك بالأدلة النقلية والعقلية

    القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص80


    اعلم أن بعض أهل التأويل أورد على أهل السنة شبهة في نصوص من الكتاب والسنة في الصفات، ادعى أن أهل السنة صرفوها عن ظاهرها؛ ليلزم أهل السنة بالموافقة على التأويل أو المداهنة فيه، وقال: كيف تنكرون علينا تأويل ما أولناه مع ارتكابكم لمثله فيما أولتموه؟
    ونحن - أي: ابن عثيمين رحمه الله - نجيب بعون الله عن هذه الشبهة بجوابين مجمل، ومفصل.
    أما المجمل فيتلخص في شيئين:
    أحدهما: أن لا نسلم أن تفسير السلف لها صرف عن ظاهرها، فإن ظاهر الكلام ما يتبادر منه من المعنى، وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فإن الكلمات يختلف معناها بحسب تركيب الكلام، والكلام مركب من كلمات وجمل، يظهر معناها ويتعين بضم بعضها إلى بعض.
    ثانيهما: أننا لو سلمنا أن تفسيرهم صرف لها عن ظاهرها، فإن لهم في ذلك دليلاً من الكتاب والسنة، إما متصلاً وإما منفصلاً، وليس لمجرد شبهات يزعمها الصارف براهين وقطعيات يتوصل بها إلى نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما المفصل فعلى كل نص أدعى أن السلف صرفوه عن ظاهره.

    القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين - ص54
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 49
    تاريخ التسجيل : 30/10/2009

    العقيدة الاسلامية Empty رد: العقيدة الاسلامية

    مُساهمة  Admin الخميس نوفمبر 05, 2009 8:03 am

    الفصل الثاني: موقف أهل السنة من التعطيل


    نُمِرُّهَا صَرِيحَةً كَمَا أَتَتْ
    مَعَ اعْتِقَادِنَا لِمَا لَهُ اقْتَضَتْ

    مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلِ
    وَغَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلِ

    بَلْ قَوْلُنَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْهُدَى

    طُوبَى لِمَنْ بِهَدْيِهِمْ قَدِ اهْتَدَى



    (ولا تعطيل) أي للنصوص بنفي ما اقتضته من صفات كمال الله تعالى ونعوت جلاله فإن نفي ذلك لازمه نفي الذات ووصفه بالعدم المحض إذ ما لا يوصف بصفة هو العدم تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ولهذا قال السلف الصالح رحمهم الله تعالى في الجهمية إنهم يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله يعبد وذلك لجحودهم صفات كماله ونعوت جلاله التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك يتضمن التكذيب بالكتاب والسنة والافتراء على الله كذبا {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 32-35].

    معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص462


    التعطيل بمعنى التخلية والترك، كقوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} [الحج: 45]، أي: مخلاة متروكة.
    والمراد بالتعطيل: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات، سواء كان كلياً أو جزئياً، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود، هذا كله يسمى تعطيلاً.
    فأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله، أو أي صفة من صفات الله ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً.
    فإن قلت: ما الفرق بين التعطيل والتحريف؟
    قلنا: التحريف في الدليل والتعطيل في المدلول، فمثلاً:
    إذا قال قائل: معنى قوله تعالى {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة: 64]، أي بل قوتاه هذا محرف للدليل، ومعطل للمراد الصحيح، لأن المراد اليد الحقيقية، فقد عطل المعنى المراد، وأثبت معنى غير المراد. وإذا قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان، لا أدري! أفوض الأمر إلى الله، لا أثبت اليد الحقيقية، ولا اليد المحرف إليها اللفظ. نقول: هذا معطل، وليس بمحرف، لأنه لم يغير معنى اللفظ، ولم يفسره بغير مراده، لكن عطل معناه الذي يراد به، وهو إثبات اليد لله عز وجل.
    أهل السنة والجماعة يتبرءون من الطريقتين: الطريقة الأولى: التي هي تحريف اللفظ بتعطيل معناه الحقيقي المراد إلى معنى غير مراد. والطريقة الثانية: وهي طريقة أهل التفويض، فهم لا يفوضون المعنى كما يقول المفوضة بل يقولون: نحن نقول: {بَلْ يَدَاهُ}، أي: يداه الحقيقيتان {مَبْسُوطَتَان}، وهما غير القوة والنعمة.
    فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف ومن التعطيل.

    شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/91





    الفصل الثالث: موقف أهل السنة من التفويض
    قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه المعروف بـ (العقل والنقل): وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله – إلى أن قال: وحينئذٍ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه. بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه، قال: ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدىً وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم وأمر بتدبر القرآن وعقله ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته... لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بيَّن للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحدٍ ومبتدعٍ: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأننا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد.اهـ. كلام الشيخ وهو كلام سديد من ذي رأي رشيد، وما عليه مزيد – رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم

    القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لمحمد بن صالح بن عثيمين – ص44


    وبهذا تعرف ضلال أو كذب من قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض، هؤلاء ضلوا إن قالوا ذلك عن جهل بطريقة السلف، وكذبوا إن قالوا ذلك عن عمد، أو نقول: كذبوا على الوجهين على لغة الحجاز، لأن الكذب عند الحجازيين بمعنى الخطأ.
    وعلى كل حال، لا شك أن الذين يقولون: إن مذهب أهل السنة هو التفويض، أنهم أخطأوا، لأن مذهب أهل السنة هو إثبات المعنى وتفويض الكيفية.
    وليعلم أن القول بالتفويض ـ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ من شر أقوال أهل البدع والإلحاد!
    عندما يسمع الإنسان التفويض، يقول: هذا جيد، أسلم من هؤلاء وهؤلاء، لا أقول بمذهب السلف، ولا أقول بمذهب أهل التأويل، أسلك سبيلاً وسطاً وأسلم من هذا كله، وأقول: الله أعلم ولا ندري ما معناها. لكن يقول شيخ الإسلام: هذا من شر أقوال أهل البدع والإلحاد‍‍‌‍.
    وصدق رحمه الله. وإذا تأملته وجدته تكذيباً للقرآن وتجهيلاً للرسول صلى الله عليه وسلم واستطالة للفلاسفة.
    تكذيب للقرآن، لأن الله يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وأي بيان في كلمات لا يدرى ما معناها؟‍ وهي من أكثر ما يرد في القرآن، وأكثر ما ورد في القرآن أسماء الله وصفاته، إذا كنا لا ندري ما معناها، هل يكون القرآن تبياناً لكل شيء؟‌‍ أين البيان؟
    إن هؤلاء يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري عن معاني القرآن فيما يتعلق بالأسماء والصفات وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدري، فغيره من باب أولى.وأعجب من ذلك يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم في صفات الله، ولا يدري ما معناه يقول: ((ربنا الله الذي في السماء)) ، وإذا سئل عن هذا؟ قال: لا أدري. وكذلك في قوله: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) وإذا سئل ما معنى (ينزل ربنا)؟ قال: لا أدري.... وعلى هذا، فقس.
    وهل هناك قدح أعظم من هذا القدح بالرسول صلى الله عليه وسلم بل هذا من أكبر القدح رسول من عند الله ليبين للناس وهو لا يدري ما معنى آيات الصفات وأحاديثها وهو يتكلم بالكلام ولا يدري معنى ذلك كله.
    فهذان وجهان: تكذيب بالقرآن وتجهيل الرسول.
    وفيه فتح الباب للزنادقة الذين تطاولوا على أهل التفويض، وقال: أنتم لا تعرفون شيئاً، بل نحن الذين نعرف، وأخذوا يفسرون القرآن بغير ما أراد الله، وقالوا: كوننا نثبت معاني للنصوص خير من كوننا أميين لا نعرف شيئاً وذهبوا يتكلمون بما يريدون من معنى كلام الله وصفاته!! ولا يستطيع أهل التفويض أن يردوا عليهم، لأنهم يقولون: نحن لا نعلم ماذا أراد الله، فجائز أن يكون الذي يريد الله هو ما قلتم! ففتحوا باب شرور عظيمة، ولهذا جاءت العبارة الكاذبة: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم!.
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: هذه قالها بعض الأغبياء، وهو صحيح، أن القائل غبي.
    هذه الكلمة من أكذب ما يكون نطقاً ومدلولاً، "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم"، كيف تكون أعلم وأحكم وتلك أسلم؟! لا يوجد سلامة بدون علم وحكمة أبداً! فالذي لا يدري عن الطريق، لا يسلم، لأنه ليس معه علم، لو كان معه علم وحكمة، لسلم، فلا سلامة إلا بعلم وحكمة.
    إذا قلت: إن طريقة السلف أسلم، لزم أن تقول: هي أعلم وأحكم وإلا لكنت متناقضاً.
    إذاً، فالعبارة الصحيحة: "طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم"، وهذا معلوم

    شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/92



    الفصل الرابع: موقف أهل السنة من التكييف

    (وغير تكييف) تفسير لكنه شيء من صفات ربنا تعالى كأن يقال استوى على هيئة كذا أو ينزل إلى السماء بصفة كذا أو تكلم بالقرآن على كيفية كذا ونحو ذلك من الغلو في الدين والافتراء على الله عز وجل واعتقاد ما لم يأذن به الله ولا يليق بجلاله وعظمته ولم ينطق به كتاب ولا سنة ولو كان ذلك مطلوبا من العباد في الشريعة لبينه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يدع ما بالمسلمين إليه حاجة إلا بينه ووضحه والعباد لا يعلمون عن الله تعالى إلا ما علمهم كما قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} [البقرة: 254] و قال الله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} [البقرة: 255] فليؤمن العبد بما علمه الله تعالى وليقف معه كهذه الصفات الثابتة في الكتاب والسنة وليمسك عما جهله وليكل إلى عالمه كيفيتها {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]

    معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص463


    (وأما لفظة) "تكييف": لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ورد ما يدل على النهي عنها.
    التكييف: هو أن تذكر كيفية الصفة، ولهذا تقول: كيَّف يكيِّف تكييفاً، أي ذكر كيفية الصفة.
    التكييف يسأل عنه بـ(كيف)، فإذا قلت مثلاً: كيف جاء زيد؟ تقول: راكباً. إذاً: كيف مجيئه. كيف لون السيارة؟ أبيض. فذكرت اللون.
    أهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله، مستندين في ذلك إلى الدليل السمعي والدليل العقلي:
    أما الدليل السمعي، فمثل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، والشاهد في قوله: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
    فإذا جاء رجل وقال: إن الله استوى على العرش، على هذه الكيفية ووصف كيفية معينة: نقول: هذا قد قال على الله مالا يعلم! هل أخبرك الله بأنه استوى على هذه الكيفية؟! لا، أخبرنا الله بأنه استوى ولم يخبرنا كيف استوى. فنقول: هذا تكييف وقول على الله بغير علم.
    ولهذا قال بعض السلف إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء، فكيف ينزل؟ فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل، ولم يخبرنا كيف ينزل. وهذه قاعدة مفيدة.
    دليل آخر من السمع: قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]، لا تتبع ما ليس لك به علم، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً.
    وأما الدليل العقلي، فكيفية الشيء لا تدرك إلا بواحد من أمور ثلاثة: مشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه أي: إما أن تكون شاهدته أنت وعرفت كيفيته. أو شاهدت نظيره، كما لو قال واحد: إن فلاناً اشترى سيارة داتسون موديل ثمان وثمانين رقم ألفين. فتعرف كيفيتها، لأن عندك مثلها أو خبر صادق عنه، أتاك رجل صادق وقال: إن سيارة فلان صفتها كذا وكذا.. ووصفها تماماً، فتدرك الكيفية الآن.
    ولهذا أيضاً قال بعض العلماء جواباً لطيفاً: إن معنى قولنا: (بدون تكييف): ليس معناه ألا نعتقد لها كيفية، بل نعتقد لها كيفية لكن المنفي علمنا بالكيفية لأن استواء الله على العرش لا شك أن له كيفية، لكن لا تعلم، نزوله إلى السماء الدنيا له كيفية، لكن لا تعلم، لأن ما من موجود إلا وله كيفية، لكنها قد تكون معلومة، وقد تكون مجهولة.سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه: 5]: كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه العرق، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء غير مجهول)، أي: من حيث المعنى معلوم، لأن اللغة العربية بين أيدينا، كل المواضع التي وردت فيها (اسْتَوَى) معداة بـ(على) معناها العلو فقال: (الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول) لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية، وجب الكف عنها، (والإيمان به واجب)، لأن الله أخبر به عنه نفسه، فوجب تصديقه، (والسؤال عن بدعة) : السؤال عن الكيفية بدعة، لأن من هم أحرص منا على العلم ما سألوا عنها وهم الصحابة لما قال الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، عرفوا عظمة الله عز وجل، ومعنى الاستواء على العرش، وأنه لا يمكن أن تسأل: كيف استوى؟ لأنك لن تدرك ذلك فنحن إذا سئلنا، فنقول: هذا السؤال بدعة.
    وكلام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل يتنقل؟! فنقول: السؤال هذا بدعة كيف تسأل عن شيء ما سأل عنه الصحابة وهم أحرص منك على الخير وعلى العلم بما يجب لله عز وجل، ولسنا بأعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو لم يعلمهم. فسؤالك هذا بدعة، ولولا أننا نحسن الظن بك، لقلنا ما يليق بك بأنك رجل مبتدع.
    والإمام مالك رحمه الله قال: (ما أراك إلا مبتدعاً) ثم أمر به فأخرج، لأن السلف يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضاتهم وتقديراتهم ومجادلاتهم.
    فأنت يا أخي عليك في هذا الباب بالتسليم، فمن تمام الإسلام لله عز وجل ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذركم دائماً من البحث فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته على سبيل التعنت والتنطع والشيء الذي ما سأل الصحابة عنه، لأننا إذا فتحنا على أنفسنا هذه الأبواب، انفتحت علينا الأبواب، وتهدمت الأسوار، وعجزنا عن ضبط أنفسنا، فلذلك قل: سمعنا وأطعنا وآمنا وصدقنا، آمنا وصدقنا بالخبر وأطعنا الطلب وسمعنا القول، حتى تسلم!
    وأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عن شيء ما سأل عنه الصحابة، فقل كما قال الإمام مالك، فإن لك سلفاً: السؤال عن هذا بدعة. وإذا قلت ذلك، لن يلح عليك، وإذا ألح، فقل: يا مبتدع! السؤال عنه بدعة، اسأل عن الأحكام التي أنت مكلف بها، أما أن تسأل عن شيء يتعلق بالرب عز وجل وبأسمائه وصفاته، ولم يسأل عنه الصحابة، فهذا لا نقبله منك أبداً!وهناك كلام للسلف يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره، نقل عنهم أنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف. وهذا يدل على أنهم يثبتون لها معنى من وجهين:
    أولاً: أنهم قالوا: "أمروها كما جاءت" ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعاني ولم تأت عبثاً، فإذا أمررناها كما جاءت، لزم من ذلك أن نثبت لها معنى.
    ثانياً: قوله: "بلا كيف" لأن نفي الكيفية يدل على وجود أصل المعنى، لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لغو وعبث.
    إذاً، فهذا الكلام المشهور عند السلف يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى.

    شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/97


    الفصل الخامس: موقف أهل السنة من التمثيل

    (ولا تمثيل) أي من غير تشبيه لشيء من صفات الله بصفات خلقه فكما أنَّا نثبت له ذاتا لا تشبه الذوات فكذلك نثبت له ما أثبت لنفسه من الأسماء والصفات ونعتقد تنزهه وتقدسه عن مماثلة المخلوقات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11] وإذا كان القول على الله بلا علم في أحكام الشريعة هو أقبح المحرمات كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فكيف بالقول على الله بلا علم في إلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته من تشبيه خلقه به أو تشبيهه لخلقه في اتخاذ الأنداد معه وصرف العبادة لهم وإن اعتقاد تصرفهم في شيء من ملكوته تشبيه للمخلوق بالخالق وكلا التشبيهين كفر بالله عز وجل أقبح الكفر وقد نزه الله تعالى نفسه عن ذلك كله في كتابه كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص] و قال الله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وقال الله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11] و قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60] و قال الله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] وغير ذلك من الآيات بل جميع القرآن من أوله إلى آخره في هذا المعنى بل لم يرسل الله تعالى رسله ولم ينزل كتبه إلا بذلك {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]

    معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص463


    ومن غير تمثيل، فأهل السنة يتبرءون من تمثيل الله عز وجل بخلقه، لا في ذاته ولا في صفاته. والتمثيل: ذكر مماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق، لأن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلا، لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل أن تقول: لي قلم كيفيته كذا وكذا. فإن قرنت بمماثل، صار تمثيلاً، مثل أن أقول: هذا القلم مثل هذا القلم، لأني ذكرت شيئاً مماثلا لشيء وعرفت هذا القلم بذكر مماثلة.
    وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة، يقولون: إن الله عز وجل له حياة وليست مثل حياتنا، له علم وليس مثل علمنا، له بصر، ليس مثل بصرنا، له وجه وليس مثل وجوهنا له يد وليست مثل أيدينا.... وهكذا جميع الصفات، يقولون: إن الله عز وجل لا يماثل خلقه فيما وصف به نفسه أبداً، ولهم على ذلك أدلة سمعية وأدلة عقلية:
    أ- الأدلة السمعية: تنقسم إلى قسمين: خبر، وطلب.
    - فمن الخبر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر، لأنه استفهام بمعنى النفي وقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية.
    - وأما الطلب، فقال الله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} [البقرة: 22] أي: نظراء مماثلين. وقال: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74].فمن مثَّل الله بخلقه، فقد كذب الخبر وعصى الأمر ولهذا أطلق بعض السلف القول بالتكفير لمن مثَّل الله بخلقه، فقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله: من شبه الله بخلقه، فقد كفر ، لأنه جمع بين التكذيب بالخبر وعصيان الطلب.
    وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق: فمن وجوه:
    أولاً: أن نقول لا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بأي حال من الأحوال لو لم يكن بينهما من التباين إلا أصل الوجود، لكان كافياً، وذلك أن وجود الخالق واجب، فهو أزلي أبدي، ووجود المخلوق ممكن مسبوق بعدم ويلحقه فناء، فما كانا كذلك لا يمكن أن يقال: إنهما متماثلان.
    ثانياً: أنا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، في صفاته يسمع عز وجل كل صوت مهما خفي ومهما بعد، لو كان في قعار البحار، لسمعه عز وجل.وأنزل الله قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، تقول عائشة: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ...والله تعالى سمعها من على عرشه وبينه وبينها ما لا يعلم مداه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يقول قائل: إن سمع الله مثل سمعنا.
    ثالثاً: نقول: نحن نعلم أن الله تعالى مباين للخلق بذاته: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255]، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67]، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فإذا كان مبايناً للخلق في ذاته، فالصفات تابعة للذات، فيكون أيضاً مبايناً للخلق في صفاته عز وجل، ولا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق.
    رابعاً: نقول: إننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، يختلف الناس في صفاتهم: هذا قوي البصر وهذا ضعيف، وهذا قوي السمع وهذا ضعيف، هذا قوي البدن وهذا ضعيف وهذا ذكر وهذا أنثى.... وهكذا التباين في المخلوقات التي من جنس واحد، فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس؟ فالتباين بينها أظهر ولهذا، لا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يداً كيد الجمل، أو لي يداً كيد الذرة، أو لي يداً كيد الهر، فعندنا الآن إنسان وجمل وذرة وهر، كل واحد له يد مختلفة عن الثاني، مع أنها متفقة في الاسم فنقول: إذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق معا فجوازه بين الخالق والمخلوق ليس جائزاً فقط بل هو واجب؛ فعندنا أربعة وجوه عقلية كلها تدل على أن الخالق لا يمكن أن يماثل المخلوق بأي حال من الأحوال.
    ربما نقول أيضا هناك دليل فطري، وذلك لأن الإنسان بفطرته بدون أن يلقن يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق ولولا هذه الفطرة؛ ما ذهب يدعو الخالق.
    فتبين الآن أن التمثيل منتفٍ سمعاً وعقلاً وفطرة.
    فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا بأحاديث تشتبه علينا؛ هل هي تمثيل أو غير تمثيل؟ ونحن نضعها بين أيديكم:قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته)) ؛ فقال: (كما) والكاف للتشبيه، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن من قاعدتنا أن نؤمن بما قال الرسول كما نؤمن بما قال الله؛ فأجيبوا عن هذا الحديث؟
    نقول نجيب عن هذا الحديث وعن غيره بجوابين: الجواب الأول مجمل والثاني مفصل.
    فالأول المجمل: أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين كلام الله وكلام رسوله الذي صح عنه أبداً؛ لأن الكل حق، والحق لا يتعارض والكل من عند الله،وما عند الله تعالى لا يتناقض) {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]؛ فإن وقع ما يوهم التعارض في همك؛ فاعلم أن هذا ليس بحسب النص، ولكن باعتبار ما عندك؛ فأنت إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة؛ فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت؛ لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له، وإما لسوء القصد والنية؛ بحيث تستعرض ما ظاهره التعارض لطلب التعارض، فتحرم التوفيق؛ كأهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه.
    ويتفرع على هذا الجواب المجمل أنه يجب عليك عند الاشتباه أن ترد المشتبه إلى المحكم؛ لأن هذه الطريق طريق الراسخين في العلم؛ قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [آل عمران: 7]، ويحملون المتشابه على المحكم حتى يبقى النص كله محكماً.
    وأما الجواب المفصل؛ فإنا نجيب عن كل نص بعينه فنقول:
    إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته))؛ ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، ولكنه تشبيه للرؤية بالرؤية؛ ((سترون.. كما ترون))؛ الكاف في: ((كما ترون)): داخلة على مصدر مؤول؛ لأن (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: كرؤيتكم القمر ليلة البدر وحينئذ يكون التشبيه للرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، والمراد أنكم ترونه رؤية واضحة كما ترون القمر ليلة البدر ولهذا أعقبه بقوله: ((لا تضامون في رؤيته)) أو: ((لا تضارون في رؤيته)) فزال الإشكال الآن.قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله خلق آدم على صورته)) والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال: هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف والكلمات؛ فالصورة مطابقة للصورة، والقائل: ((إن الله خلق آدم على صورته)): الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق.
    والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فإن يسر الله لك الجمع؛ فاجمع، وإن لم يتيسر؛ فقل: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له؛ بهذا تسلم أمام الله عز وجل.
    هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضاً؛ لأنه كله خبر وليس حكماً كي ينسخ؛ فأقول: هذا نفي للمماثلة، وهذا إثبات للصورة؛ فقل: إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم على صورته؛ فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله والكل حق نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع.وأما الجواب المفصّل؛ فنقول: إن الذي قال: ((إن الله خلق آدم على صورته)) رسول الذي قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] والرسول لا يمكن أن ينطق بما يكذب المرسل والذي قال: ((خلق آدم على صورته)) هو الذي قال: ((إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر)) فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمال واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه؟! فإن قلت بالأول؛ فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم آناف وليس لهم أفواه! وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه.
    فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا وقال: أنا لا أفهم إلا أنه مماثل.
    قلنا: هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه؛ فقوله: ((على صورته))؛ مثل قوله عز وجل في آدم: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي} [الحجر: 29]، ولا يمكن أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عز وجل، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف؛ كما نقول: عباد الله؛ يشمل الكافر والمسلم والمؤمن والشهيد والصديق والنبي لكننا لو قلنا: محمد عبد الله؛ هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة.
    فقوله: ((خلق آدم على صورته))؛ يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} [الأعراف: 11]، والمصور آدم إذاً؛ فآدم عل صورة الله؛ يعني: أن الله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]؛ فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف؛ كأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة ومن أجل ذلك؛ لا تضرب الوجه؛ فتعيبه حساً، ولا تقبحه فتقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك؛ فتعيبه معنىً؛ فمن أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً؛ لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي.
    ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفاً أم له نظير؟
    نقول: له نظير، كما في: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله؛ لأن هذه الصورة (أي: صورة آدم) منفصلة بائنة من الله وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه؛ فهو من المخلوقات؛ فحينئذ يزول الإشكال.
    ولكن إذا قال لقائل: أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني؟ قلنا: المعنى الأول أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغاً في اللغة العربية وإمكاناً في العقل؛ فالواجب حمل الكلام عليه ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره.
    فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون آدم عليها ؟
    قلنا: إن الله عز وجل له وجه وله عين وله يد وله رجل عز وجل، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان؛ فهناك شيء من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة؛ كما أن الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة؛ من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
    نسمع كثيراً من الكتب التي نقرأها يقولون: تشبيه؛ يعبرون بالتشبيه وهم يقصدون التمثيل؛ فأيما أولى: أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل؟
    نقول بالتمثيل أولى.
    أولاً: لأن القرآن عبر به: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]،{فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} [البقرة: 22]... وما أشبه ذلك، وكل ما عبر به القرآن؛ فهو أولى من غيره؛ لأننا لا نجد أفصح من القرآن ولا أدل على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبر بنفي التمثيل. وهكذا في كل مكان؛ فإن موافقة النص في اللفظ أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب.
    ثانياً: أن التشبيه عند بعد الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون أهل السنة: مشبهة؛ فإذا قلنا: من غير تشبيه وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات؛ صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسداً فلهذا كان العدول عنه أولى.
    ثالثاً: أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح؛ لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقاً؛ لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما.
    مثلاً: الوجود؛ يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك نوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين؛ وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن.
    وكذلك السمع؛ فيه اشتراك؛ الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن أصل وجود السمع مشترك.
    فإذا قلنا: من غير تشبيه ونفينا مطلق التشبيه؛ صار في هذا إشكال.
    وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه
    فإن قلت: ما الفرق بينهما من وجهين.
    الأول: أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل؛ فتقول يد فلان مثل يد فلان، والتكييف ذكر الصفة غير مقيدة بمماثل؛ مثل أن تقول: كيفية يد فلان كذا وكذا.
    وعلى هذا نقول: كل ممثل مكيف، ولا عكس.
    الثاني: أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]؛ أي: في العدد

    شرح العقيدة الواسطية لمحمد بن صالح بن عثيمين – 1/102

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء مايو 07, 2024 1:31 pm